ليست القذائف الحوثيّة التي استهدفت مدنيين في تعز في وسط اليمن سوى تأكيد لواقع يتمثل في أنّ “جماعة أنصارالله” تعرف تماما ماذا تريد. لن تقبل الجماعة الحوثيّة أي حل سياسي في اليمن من دون تكريس واقع معيّن يخدم المشروع التوسّعي الإيراني ويقع في سياقه.
يتمثّل هذا الواقع في تحويل جزء من اليمن إلى ما يشبه قطاع غزّة. نجحت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في غزّة حيث شاركت الإخوان المسلمين، أي حركة “حماس”، في انقلاب منتصف حزيران – يونيو 2007. دعمت إيران الانقلاب في غزّة على نحو مكشوف. لم يوجد من يتصدّى لذلك الانقلاب في ظلّ سلطة فلسطينية تتميّز بالميوعة وقصر النظر. لم يوجد من يدرك معنى انتقال غزّة إلى قاعدة إيرانيّة يتحكّم بها الإخوان المسلمون. لا يوجد حاليا ما يمنع نجاح إيران في شمال اليمن بما يشمل العاصمة صنعاء وميناء الحديدة.
بوضوح تام، يكشف الحوثيون ما الذي يريدونه، أو على الأصحّ ما الذي لا يريدونه. يريدون كيانهم السياسي بعاصمته صنعاء، التي استولوا عليها في 21 أيلول – سبتمبر 2014 بتواطؤ مع “الشرعيّة” التي كانت ممثلة وقتذاك بالرئيس السابق عبدربّه منصور هادي. ما لا يريدون هو حلّ سياسي لا يعترف بأنّهم الآمر الناهي في منطقة يمنيّة لا تشمل صنعاء فحسب، بل تشمل ميناء الحديدة أيضا، فضلا عن جيب في تعز. يريدون حكم ما كان في الماضي الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة، حتّى لو لم تكن تعز كلّها تحت سلطتهم.
تحوّل الكيان السياسي الحوثي، في نهاية المطاف، إلى قاعدة إيرانيّة في شبه الجزيرة العربيّة، قاعدة فيها صواريخ وطائرات مسيّرة. لم يقبل الحوثيون تمديد الهدنة ولن يقبلوا تمديدها إلّا إذا كانت تصب في خدمة مشروعهم، وهو المشروع الإيراني في اليمن الذي يبدو إلى إشعار آخر أنّه مشروع يتقدّم. لا شيء يتقدّم في اليمن، هذه الأيّام، غير المشروع الإيراني.
كانت الضربة الوحيدة التي تلقاها هذا المشروع، منذ انطلاقه قبل سنوات طويلة، في كانون الثاني – يناير الماضي. وقتذاك، تمكنت قوات العمالقة، وهي في معظمها جنوبيّة، من وقف تقدمهم في محافظة شبوة الجنوبية من جهة وفكّ الحصار الذي فرضوه على مدينة مأرب من جهة أخرى.
ما قام به الحوثيون في تعز حيث لديهم وجود عسكري، وحتى سياسي، جزء لا يتجزّأ من الردود الإيرانيّة على الجولة التي قام بها الرئيس جو بايدن في المنطقة وشملت إسرائيل والمملكة العربيّة السعودية مع محطة فلسطينية قصيرة، من باب رفع العتب، في بيت لحم.
لم تكن قمّة طهران الإيرانيّة – التركيّة – الروسيّة الردّ الوحيد على مجيء الرئيس الأميركي إلى المنطقة وعلى القمم التي انعقدت في جدّة. لا يزال اليمن ورقة مهمّة من الأوراق الإيرانيّة. لكنّ اليمن يشكل أيضا تحدّيا لإدارة بايدن التي سيتوجب عليها التخلي عن وهم الحل السياسي في اليمن في ظلّ موازين القوى القائمة. بكلام أوضح، إنّ الحل السياسي وارد، بل هو ضرورة لليمن الذي يعاني شعبه من كلّ أنواع المشاكل، بما في ذلك الفقر والجوع والمرض. لكنّ مثل هذا الحال يحتاج إلى إقناع الحوثيين أنّ الحلّ السياسي في مصلحتهم وأنّ ليس في استطاعتهم الوقوف في وجهه. كيف ذلك؟ الجواب في تغيير يحصل على الأرض. هل يستطيع مجلس القيادة الرئاسي برئاسة الدكتور رشاد العليمي إحداث هذا التغيير الذي يحتاج بدوره إلى تغيير في الموقف الأميركي بشكل عام وليس إلى مسايرة الحوثيين عبر رفعهم عن لائحة الإرهاب؟
لا شكّ أن الحوثيين يشكلون جزءا من النسيج اليمني. لا يستطيع أيّ عاقل تجاهل ذلك. لكنّه لا يوجد أيضا أيّ شكّ في أنّ تحويل شمال اليمن إلى قطاع غزّة آخر خطر كبير على كلّ دولة من دول المنطقة في وقت لا تهمّ ظروف عيش اليمنيين إيران. لا يهمّ إيران عدد اليمنيين الذين يمكن أن يموتوا يوميا بسبب الفقر والمرض وفقدان المواد الغذائيّة. يؤكّد ذلك غياب أي مشروع، لدى الحوثيين، غير مشروع تجنيد مراهقين وزجّهم في المعارك بعد تلقيهم خرافات. لم يعد سرّا أنّ الحوثيين استطاعوا تحقيق تغييرات كبيرة في كلّ مناطق سيطرتهم، بما في ذلك تغيير طبيعة المجتمع اليمني في مناطق عدة في الشمال حيث استطاعوا القضاء على التركيبة القبلية التي تحكمت به.
إلى إشعار آخر، ليس ما يشير إلى وجود قوى سياسيّة أو قبلية على استعداد للتصدي لـ”جماعة أنصارالله” في المناطق الشماليّة، لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّ الحاجة، اليوم قبل غد، إلى إيجاد من يتصدّى للحوثيين وإقناع القبائل الشمالية، بما في ذلك ما يسمّى قبائل الطوق، بأن هؤلاء يمكن قهرهم. هذه القبائل الشمالية التي تطوّق صنعاء استسلمت في الماضي أمام الحوثيين. لم تقف في وجه اجتياحهم صنعاء. على العكس من ذلك ساعدتهم، قبل ثماني سنوات بالتمام والكمال، في الوصول إلى العاصمة عبر محافظة صعدة التي كان مفترضا أن يدافع عنها الجيش اليمني. كان ذلك الجيش بقيادة عبدربّه منصور هادي الذي تجاهل في تلك المرحلة، عن سابق تصوّر وتصميم، كلّ التحذيرات التي بعث بها إليه الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
من أجل منع تحول اليمن الشمالي إلى غزّة أخرى، تبدو الحاجة أكثر من أي وقت إلى مقاربة مختلفة للأزمة اليمنية. لا تقتصر الحاجة إلى تفعيل مجلس القيادة الرئاسي فحسب، بل يبدو ضروريّا أيضا أن تغيّر الإدارة الأميركية سياستها بما يتجاوب مع مخاوف دول المنطقة التي جاء الرئيس بايدن إلى السعوديّة لطمأنتها وليس لتأكيد انسحاب أميركا من الخليج والشرق الأوسط.
تردّ إيران على جولة الرئيس الأميركي. يبدو اليمن بين الأماكن التي تردّ فيها. هل تبقى واشنطن تتفرّج مثلما تفرّجت في الماضي على “حماس” تستولي على قطاع غزّة وتحويله إلى إحدى الأوراق الإيرانيّة في المنطقة؟
عن "العرب"