مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

بين يدي العام 2023

2023/01/05 الساعة 09:00 صباحاً

كما‭ ‬يحصل‭ ‬مع‭ ‬الطلبة‭ ‬الذين‭ ‬يفشلون‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬الامتحانات‭ ‬فيحملون‭ ‬معهم‭ ‬بعض‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬رسبوا‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬المقبل،‭ ‬نقلنا‭ ‬غالباً‭ ‬ملفات‭ ‬كثيرة‭ ‬معنا‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬الجديد؛‭ ‬ملفات‭ ‬تشمل‭ ‬التحديات‭ ‬والاخفاقات؛‭ ‬التدخلات‭ ‬الأجنبية‭ ‬والحروب‭ ‬الأهلية،‭ ‬التراجع‭ ‬في‭ ‬معدلات‭ ‬النمو‭ ‬وحجم‭ ‬الاستثمارات،‭ ‬التراجع‭ ‬في‭ ‬المداخيل‭ ‬القومية‭ ‬والفردية،‭ ‬تراجع‭ ‬مستويات‭ ‬التعليم‭ ‬والبحث‭ ‬العلمي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ملفات‭ ‬وطنية‭ ‬وقومية‭ ‬لازمتنا‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭.‬
‭ ‬وإذا‭ ‬تركنا‭ ‬الملفات‭ ‬الوطنية‭ ‬إلى‭ ‬الأخرى‭ ‬القومية‭ ‬فإن‭ ‬الملف‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الذي‭ ‬يُعَد‭ ‬الأكبر‭ ‬والأقدم‭ ‬أصبح‭ ‬يُنقل‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تقدم‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬محتوياته،‭ ‬وفوق‭ ‬ذلك‭ ‬أصبحت‭ ‬أخبار‭ ‬الخلافات‭ ‬الفلسطينية‭-‬الفلسطينية‭ ‬تطغى‭ ‬على‭ ‬قضية‭ ‬‮«‬الصراع‭ ‬العربي‭ ‬الإسرائيلي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬فلسطيني‭-‬إسرائيلي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغدو‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬ملف‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الإرهاب‮»‬‭. ‬ومع‭ ‬الزمن‭ ‬طغى‭ ‬حصار‭ ‬غزة‭ ‬وقضية‭ ‬المعتقلين‭ ‬واقتحامات‭ ‬المسؤولين‭ ‬والمستوطنين‭ ‬الإسرائيليين‭ ‬للأقصى‭ ‬الشريف‭ ‬والمعاناة‭ ‬اليومية‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عداها،‭ ‬وأصبحت‭ ‬تلك‭ ‬القضايا‭ ‬تحتل‭ ‬عناوين‭ ‬الأخبار،‭ ‬وغاب‭ ‬جوهر‭ ‬قضية‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الوضع‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬سعى‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬إلى‭ ‬اختصار‭ ‬القضية‭ ‬فيه‭.‬
ولم‭ ‬تطغَ‭ ‬تفاصيل‭ ‬المعاناة‭ ‬الإنسانية‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬وحدها‭ ‬على‭ ‬جوهر‭ ‬القضية‭ ‬التي‭ ‬نتجت‭ ‬عن‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬ولكن‭ ‬العقد‭ ‬الماضي‭ ‬أفرز‭ ‬‮«‬فلسطينيات‮»‬‭ ‬جديدة‭ ‬أثرت‭ – ‬للأسف‭ – ‬على‭ ‬‮«‬القضية‭ ‬المركزية‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬قطاعات‭ ‬رسمية‭ ‬وشعبية‭ ‬عربية‭ ‬واسعة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تجد‭ ‬التفاعل‭ ‬القديم‭ ‬مع‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين،‭ ‬لأن‭ ‬تلك‭ ‬‮«‬الفلسطينيات‮»‬‭ ‬الجديدة‭ ‬شغلت‭ ‬تلك‭ ‬القطاعات‭ ‬واستنزفت‭ ‬قدراتها‭ ‬وأثرت‭ ‬على‭ ‬رؤيتها‭ ‬لمجريات‭ ‬السياسات‭ ‬والأحداث‭.‬
وإذا‭ ‬غادرنا‭ ‬الملف‭ ‬الفلسطيني‭ ‬يطالعنا‭ ‬الملف‭ ‬السوري‭ ‬والدمار‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬بفعل‭ ‬استبداد‭ ‬نظام‭ ‬وتشرذم‭ ‬معارضة،‭ ‬وتدخل‭ ‬دول‭ ‬وميليشيات،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دمر‭ ‬الدولة،‭ ‬وهجَّر‭ ‬نصف‭ ‬السكان،‭ ‬مع‭ ‬استقدام‭ ‬‮«‬مستوطنين‭ ‬جدد‮»‬‭ ‬من‭ ‬ميليشيات‭ ‬إيرانية‭ ‬وأفغانية‭ ‬وغيرها،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬حول‭ ‬وجه‭ ‬دمشق‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬وجه‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬صورته‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬نزار‭ ‬وحكايات‭ ‬الحارة‭ ‬الدمشقية‭ ‬العريقة،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأمويين‭.‬
أشياء‭ ‬مشابهة‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬التفاصيل‭ ‬البسيطة‭ ‬المختلفة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقال‭ ‬عن‭ ‬ملفات‭ ‬لبنان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مضرب‭ ‬مثل‭ ‬الصحافة‭ ‬والسياحة‭ ‬والثقافة‭ ‬والآداب‭ ‬والفنون،‭ ‬قبل‭ ‬تحوله‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬تصفية‭ ‬حسابات‭ ‬دولية‭ ‬وإقليمية‭ ‬أعادت‭ ‬بيروت‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عاصمة‭ ‬الثقافة‭ ‬والذوق‭ ‬والجمال‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬بؤرة‭ ‬طائفية‮»‬‭ ‬تصدر‭ ‬عنها‭ ‬خطابات‭ ‬الكراهية‭ ‬والتحريض‭ ‬والتحريض‭ ‬المضاد،‭ ‬مع‭ ‬انعكاس‭ ‬روحها‭ ‬الشاحبة‭ ‬على‭ ‬شوارعها‭ ‬التي‭ ‬تغيرت‭ ‬ملامحها‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬بسبب‭ ‬أكداس‭ ‬النفايات‭ ‬المادية‭ ‬والطائفية‭ ‬والحزبية‭ ‬التي‭ ‬شوهت‭ ‬وجه‭ ‬بيروت‭ ‬وروحها‭.‬
والعراق‭ – ‬في‭ ‬مشاكله‭ – ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬اليمن‭ ‬وما‭ ‬يعانيه،‭ ‬والأمر‭ ‬ذاته‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الفروق‭ ‬البسيطة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬ليبيا‭ ‬والسودان،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬ملفات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬لديها‭ ‬إشكالات‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وثقافية‭ ‬يعاد‭ ‬جدولتها‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تقدم‭ ‬ملموس‭.‬
في‭ ‬بلداننا‭ ‬العربية‭ ‬تكون‭ ‬التوقعات‭ ‬الأكثر‭ ‬تشاؤماً‭ – ‬مع‭ ‬الأسف‭ – ‬هي‭ ‬الأقرب‭ ‬للدقة،‭ ‬نتيجة‭ ‬لغياب‭ ‬أي‭ ‬مقاربات‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬الإشكاليات‭ ‬والحلول،‭ ‬مشاكلنا‭ ‬تتكرر‭ ‬لأننا‭ ‬نجرب‭ ‬الحلول‭ ‬التي‭ ‬جربنا‭ ‬فشلها،‭ ‬وأوجاع‭ ‬هذا‭ ‬الجسد‭ ‬تتكاثر،‭ ‬لأن‭ ‬الأدوية‭ ‬المستخدمة‭ ‬منتهية‭ ‬الصلاحية،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬الإشكال‭.‬
يتم‭ ‬تجريب‭ ‬مقاربات‭ ‬فاشلة‭ ‬ويعاد‭ ‬إنتاجها‭ ‬بطرق‭ ‬مختلفة‭ ‬فيستمر‭ ‬الفشل،‭ ‬لأننا‭ ‬لا‭ ‬نحاول‭ ‬تغيير‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬نعمل‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬التكتيكات،‭ ‬ونستمر‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬الأدوار‭ ‬ذاتها‭ ‬مع‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بتغيير‭ ‬الممثلين‭ ‬في‭ ‬مسرحيات‭ ‬مملة‭ ‬يتكرر‭ ‬عرضها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود‭ ‬طويلة‭ ‬دون‭ ‬تغيير‭ ‬يذكر،‭ ‬وهذا‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬الموضوعية‭ ‬العلمية‭ ‬ويتعارض‭ ‬مع‭ ‬المعايير‭ ‬الفنية‭ ‬ومع‭ ‬البديهيات‭ ‬والمسلمات،‭ ‬ومع‭ ‬العقل‭ ‬والمنطق‭ ‬وأبسط‭ ‬قواعد‭ ‬التفكير،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الحلول‭ ‬الفاشلة‭ ‬تفاقم‭ ‬المشكلة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الأدوية‭ ‬الفاسدة‭ ‬تقتل‭ ‬المريض‭.‬
إذا‭ ‬أردنا‭ ‬النجاح‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نسلك‭ ‬طريق‭ ‬النجاح،‭ ‬وإن‭ ‬أردنا‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النفق‭ ‬الذي‭ ‬مكثنا‭ ‬فيها‭ ‬عقوداً‭ ‬طويلة‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الخريطة‭ ‬الصحيحة‭ ‬التي‭ ‬ترسم‭ ‬بدقة‭ ‬تضاريس‭ ‬وحدود‭ ‬وملامح‭ ‬ومسارات‭ ‬ومخارج‭ ‬هذا‭ ‬النفق‭ ‬المظلم،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يتحتم‭ ‬على‭ ‬مخرج‭ ‬هذه‭ ‬الدراما‭ ‬الضحلة‭ – ‬لكي‭ ‬يعيد‭ ‬فيها‭ ‬روح‭ ‬الفن‭ – ‬ألا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬الشخوص‭ ‬والأزياء‭ ‬ونوعية‭ ‬مساحيق‭ ‬التجميل‭ ‬والديكورات،‭ ‬بل‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬جديدة‭ ‬وسردية‭ ‬مختلفة‭ ‬وحبكة‭ ‬أكثر‭ ‬إبداعاً،‭ ‬لتجاوز‭ ‬هذا‭ ‬التسطيح‭.‬
ولو‭ ‬أخذنا‭ ‬عينة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الملفات‭ ‬التي‭ ‬حملناها‭ ‬معنا‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الماضي،‭ ‬عينة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الحروب‭ ‬الأهلية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تضرب‭ ‬بعض‭ ‬بلداننا،‭ ‬فيمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الخطوة‭ ‬الجوهرية‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬بناء‭ ‬حبكة‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬طرح‭ ‬مقاربة‭ ‬مختلفة،‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬هي‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬‮«‬مركزية‭ ‬الخارج‮»‬‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحلول،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬الوسيط‭ ‬الدولي‮»‬‭ ‬بأشكاله‭ ‬وأنواعه‭ ‬وأسمائه‭ ‬وصفاته‭ ‬المختلفة،‭ ‬لسبب‭ ‬بسيط،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬الخارج‭ – ‬غالباً‭ ‬وليس‭ ‬دائماً‭ – ‬أقرب‭ ‬لإثارة‭ ‬المشكل‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬الحل‭.‬
إن‭ ‬أسماء‭ ‬مثل‭ ‬المبعوث‭ ‬الأممي،‭ ‬المبعوث‭ ‬الأمريكي،‭ ‬الوسيط‭ ‬الأوروبي،‭ ‬وما‭ ‬شابه‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬والشخصيات‭ ‬والتوصيفات‭ ‬لن‭ ‬تجلب‭ ‬الحل‭ ‬لمعضلة‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬جهد‭ ‬هؤلاء‭ ‬المبعوثين‭ ‬أن‭ ‬يعملوا‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬الأزمات‭ ‬لا‭ ‬حلها‭. ‬ولذلك‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬إيلاء‭ ‬دور‭ ‬البطولة‭ ‬لمثل‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬الأدوار‭ ‬البطولية‭ ‬للداخل،‭ ‬للتركيز‭ ‬على‭ ‬سبل‭ ‬الحل‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬وطنية،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬المؤثرات‭ ‬الأجنبية‭.‬
غير‭ ‬أن‭ ‬الحلول‭ ‬الوطنية‭ ‬للمشاكل‭ ‬الداخلية‭ ‬ليست‭ ‬بالأمر‭ ‬السهل،‭ ‬لأن‭ ‬أولى‭ ‬عقبات‭ ‬تلك‭ ‬الحلول‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬تمدد‭ ‬الخارج‭ ‬في‭ ‬الداخل،‭ ‬ولأن‭ ‬مشاكل‭ ‬الداخل‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬الأبواب‭ ‬للخارج‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفضي‭ ‬لحلول‭ ‬مناسبة‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحلول‭ ‬الداخلية‭ ‬يقتضي‭ ‬تقليص‭ ‬دور‭ ‬الخارج،‭ ‬فإن‭ ‬تقليص‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬بتقليص‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تحكم‭ ‬ذلك‭ ‬الخارج‭ ‬بمقدراتنا،‭ ‬وذلك‭ ‬يقتضي‭ ‬التوافق‭ ‬على‭ ‬ثوابت‭ ‬وطنية‭ ‬محددة،‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬اللجوء‭ ‬للانتخاب‭ ‬الشعبي‭ ‬والحلول‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والسلمية،‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬الصراعات‭ ‬المستمرة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬صراعات‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬والثروة،‭ ‬مهما‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تتستر‭ ‬بأردية‭ ‬براقة؛‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬وطنية‭ ‬أو‭ ‬قومية‭. ‬
وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬فإن‭ ‬اللجوء‭ ‬للخيارات‭ ‬السلمية‭ ‬يعني‭ ‬تجريم‭ ‬اعتماد‭ ‬السلاح‭ – ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أيٍ‭ ‬كان‭ – ‬وسيلة‭ ‬للوصول‭ ‬للسلطة،‭ ‬ومنع‭ ‬المتاجرة‭ ‬بالدين‭ ‬والقضايا‭ ‬الوطنية‭ ‬والعربية‭ ‬العادلة‭ ‬لتغليف‭ ‬رغباتنا‭ ‬ومصالحنا‭ ‬الشخصية‭ ‬والفئوية‭ ‬والحزبية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المصالح‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية،‭ ‬وعلى‭ ‬حساب‭ ‬مقدساتنا‭ ‬الدينية‭.‬

يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تكف‭ ‬الأقلية‭ ‬عن‭ ‬احتكار‭ ‬السلطة‭ ‬بالقوة،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الأقلية‭ ‬مذهبية‭ ‬أو‭ ‬عسكرية‭ ‬أو‭ ‬سياسية،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬بالقوة‭ ‬لن‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬بصندوق‭ ‬الانتخابات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬السلطة‭ ‬عامل‭ ‬صراع‭ ‬مسلح،‭ ‬لا‭ ‬وسيلة‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬خدمة‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬تمثله‭ ‬سلطة‭ ‬شعبية‭ ‬منتخبة،‭ ‬لا‭ ‬جماعة‭ ‬أقلوية‭ ‬سيطرت‭ ‬بالسلاح‭ ‬والدعايات‭ ‬الأيديولوجية‭.‬
إن‭ ‬الإشكالية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬اليوم‭ ‬هي‭ ‬الإشكالية‭ ‬السياسية،‭ ‬وإن‭ ‬الإشكالية‭ ‬السياسية‭ ‬تتجسد‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬يقدم‭ ‬التداول‭ ‬السلمي‭ ‬للسلطة‭ ‬على‭ ‬الانقلابات‭ ‬العسكرية‭.‬
وعندما‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬تامة‭ ‬بضرورة‭ ‬الاحتكام‭ ‬لـ»الانتخاب‭ ‬الشعبي‮»‬‭ ‬ونتخلى‭ ‬عن‭ ‬كذبة‭ ‬‮«‬الاختيار‭ ‬الإلهي‮»‬‭ ‬للحاكم‭ ‬في‭ ‬منطقتنا،‭ ‬ونتجاوز‭ ‬أسطورة‭ ‬‮«‬القائد‭ ‬الضرورة‮»‬‭ ‬فإننا‭ ‬حينها‭ ‬سنكف‭ ‬عن‭ ‬توظيف‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬الضيقة،‭ ‬واستهلاك‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬الشعارات‭ ‬الفارغة،‭ ‬وعن‭ ‬اعتبار‭ ‬الشعب‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الرعايا،‭ ‬لا‭ ‬حقوق‭ ‬لهم‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ارتآه‭ ‬الحاكم‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬اختاره‭ ‬الله‮»‬‭ ‬أو‭ ‬القائد‭ ‬الذي‭ ‬أوجدته‭ ‬‮«‬الحتمية‭ ‬التاريخية‮»‬،‭ ‬وهنا‭ ‬سيتولى‭ ‬الحاكم‭ ‬منصبه‭ ‬بـ‮»‬تفويض‭ ‬شعبي‮»‬‭ ‬لا‭ ‬بـ»وصية‭ ‬إلهية‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬التفويض‭ ‬الشعبي،‭ ‬هو‭ ‬تفويض‭ ‬مشروط‭ ‬بمدى‭ ‬التزام‭ ‬الحاكم‭ ‬بمقتضيات‭ ‬هذا‭ ‬التفويض‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬عبر‭ ‬صناديق‭ ‬الاقتراع،‭ ‬وهذه‭ ‬المقتضيات‭ ‬هي‭ ‬الالتزام‭ ‬بالدستور‭ ‬والقانون،‭ ‬وما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬العمل‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬انتخاب‭ ‬الحاكم‭ ‬على‭ ‬أساسها،‭ ‬وذلك‭ ‬يتضمن‭ ‬نقل‭ ‬مركز‭ ‬الاهتمام‭ ‬من‭ ‬الحاكم‭ ‬إلى‭ ‬الدستور،‭ ‬ومن‭ ‬الحكومة‭ ‬إلى‭ ‬القانون،‭ ‬ومن‭ ‬الأشخاص‭ ‬إلى‭ ‬القيم،‭ ‬ومن‭ ‬المصالح‭ ‬الذاتية‭ ‬إلى‭ ‬المصالح‭ ‬العامة‭.‬
إذا‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬يهيئنا‭ ‬لتقبل‭ ‬تلك‭ ‬القناعات‭ ‬فإننا‭ ‬سنشهد‭ ‬انفراجة‭ ‬سياسية‭ ‬كبيرة‭ ‬تهيئ‭ ‬لما‭ ‬بعدها،‭ ‬حيث‭ ‬ستتلاشى‭ ‬العصبويات‭ ‬المختلفة‭ ‬دينياً‭ ‬وطائفياً،‭ ‬حزبياً‭ ‬وسياسياً،‭ ‬ثقافياً‭ ‬وأيديولوجيا،‭ ‬مناطقياً‭ ‬وجهوياً،‭ ‬وسوف‭ ‬يكون‭ ‬التنافس‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬برامج‭ ‬العمل‭ ‬الانتخابية،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬مدى‭ ‬الالتزام‭ ‬بـ»مبدأ‭ ‬الولاية‮»‬‭ ‬القديم،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬حجم‭ ‬التخمة‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬الدعاية‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬القومية‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬بعض‭ ‬الميليشيات‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬بها،‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬الموبوءة‭ ‬بنكد‭ ‬السياسة‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬اليد‭ ‬الطولى‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬الخارطة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭.‬
ولأن‭ ‬المشكل‭ ‬السياسي‭ ‬هو‭ ‬المشكل‭ ‬الأكثر‭ ‬مساً‭ ‬بحياة‭ ‬الناس،‭ ‬فإن‭ ‬المدخل‭ ‬إلى‭ ‬حله‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسهم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬إحداث‭ ‬تغيير‭ ‬حقيقي‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬الأنساق؛‭ ‬اقتصادياً‭ ‬وثقافياً‭ ‬واجتماعياً،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مقاربة‭ ‬هذا‭ ‬المشكل‭ ‬تعني‭ ‬الإيمان‭ ‬بالقناعات‭ ‬المذكورة‭ ‬التي‭ ‬تُعد‭ ‬من‭ ‬مسلمات‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬القناعات‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬السياسي‭ ‬سيكون‭ ‬محصلة‭ ‬خبرات‭ ‬تراكمية،‭ ‬ومديات‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬المتزايد،‭ ‬ومستويات‭ ‬من‭ ‬التقدم‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬والحداثة‭ ‬الإدارية،‭ ‬والحوكمة‭ ‬الرشيدة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والاجتماع‭ ‬حقول‭ ‬متجاورة‭ ‬يصعب‭ ‬فصلها‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭.‬
وبما‭ ‬أن‭ ‬التغيير‭ ‬السياسي‭ ‬هو‭ ‬المدخل‭ ‬الرئيسي‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الوحيد،‭ ‬وبما‭ ‬أنه‭ ‬يتطلب‭ ‬عوامل‭ ‬متضافرة‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والنضوج‭ ‬الثقافي‭ ‬والنمو‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬فإن‭ ‬الأوضاع‭ ‬الراهنة‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬المختلفة،‭ ‬والتي‭ ‬سادت‭ ‬أثناء‭ ‬العام‭ ‬2022‭ ‬وما‭ ‬قبله‭ ‬ستستمر‭ ‬معنا‭ ‬للعام‭ ‬2023‭ ‬وما‭ ‬بعده‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتهيأ‭ ‬ظروف‭ ‬موضوعية‭ ‬مناسبة‭ ‬لإحداث‭ ‬التغيير‭ ‬المنشود‭.‬
ما‭ ‬سبق‭ ‬كان‭ ‬مجرد‭ ‬ملامح‭ ‬حل‭ ‬لأحد‭ ‬الملفات‭ ‬الشائكة،‭ ‬لكن‭ ‬المشكل‭ ‬اليوم‭ ‬يبدو‭ ‬مستعصياً‭ ‬مع‭ ‬تزايد‭ ‬التدخلات‭ ‬الخارجية،‭ ‬وتوظيف‭ ‬الفتنة‭ ‬الطائفية‭ ‬لتفتيت‭ ‬مجتمعاتنا،‭ ‬ومحاولات‭ ‬تفكيك‭ ‬شعوبنا‭ ‬إلى‭ ‬مكوناتها‭ ‬العرقية‭ ‬والمذهبية،‭ ‬ومع‭ ‬تدمير‭ ‬وتآكل‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬والهياكل‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ومحاولات‭ ‬تحويلنا‭ ‬من‭ ‬شعوب‭ ‬منتجة‭ ‬إلى‭ ‬طوابير‭ ‬طويلة‭ ‬تمتد‭ ‬أمام‭ ‬أبواب‭ ‬الجمعيات‭ ‬الخيرية‭ ‬ومقرات‭ ‬برنامج‭ ‬الغذاء‭ ‬العالمي،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬قتل‭ ‬الروح‭ ‬المعنوية‭ ‬والطاقات‭ ‬الإبداعية‭ ‬لشعوبنا،‭ ‬ويعمل‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬إلى‭ ‬مجاميع‭ ‬من‭ ‬المتسولين‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬على‭ ‬فتات‭ ‬المنظمات‭ ‬الإغاثية‭ ‬الدولية‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬دولنا‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬سلال‭ ‬غذائية‭ ‬عالمية‭ ‬ومخازن‭ ‬طاقة‭ ‬دولية‭ ‬وموارد‭ ‬مائية‭ ‬ضخمة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ – ‬على‭ ‬يد‭ ‬أبنائها‭ – ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬مزرية‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬المستويات‭.‬
وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬حجم‭ ‬الخراب‭ ‬المادي‭ ‬والمعنوي‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬فإن‭ ‬عملية‭ ‬الإصلاح‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬سريعة‭ ‬ولا‭ ‬سهلة،‭ ‬مع‭ ‬استمرار‭ ‬معاول‭ ‬الهدم‭ ‬المادي‭ ‬والفكري‭ ‬والروحي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تعمل‭ ‬عملها‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬المكان‭ ‬والإنسان،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬الاشتغال‭ ‬على‭ ‬تفكيك‭ ‬بنية‭ ‬المشكل،‭ ‬وتحليل‭ ‬طبيعة‭ ‬التحديات،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬رؤية‭ ‬واقعية‭ ‬تكون‭ ‬أساساً‭ ‬لمشروع‭ ‬وطني‭ ‬جامع،‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬كل‭ ‬مواطنيها،‭ ‬لا‭ ‬دولة‭ ‬طائفة‭ ‬أو‭ ‬مذهب‭ ‬أو‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬أو‭ ‬حزب‭ ‬أو‭ ‬شريحة‭ ‬أو‭ ‬مكون‭ ‬أو‭ ‬قبيلة‭ ‬أو‭ ‬ميليشيا،‭ ‬ولكن‭ ‬دولة‭ ‬طبيعية‭ ‬تجعل‭ ‬كل‭ ‬مواطنيها‭ ‬يشعرون‭ ‬بالانتماء‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المواطنة‭ ‬المتساوية‭ ‬والحقوق‭ ‬المدنية‭ ‬والحريات‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭ ‬واحترام‭ ‬سيادة‭ ‬القانون،‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭.‬

عن "القدس العربي"