مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019
الرئيسية - المشهد الديني - الجملة القرآنية ودلالاتها التربوية (قراءة في سورة الهمزة) (1)

الجملة القرآنية ودلالاتها التربوية (قراءة في سورة الهمزة) (1)

الساعة 06:01 مساءً (المشهد الخليجي )

تتميز الجملة القرآنية عن غيرها من الجمل بخصائصَ تركيبيةٍ، وسماتٍ نحويةٍ تختلف كثيرًا عن الاستعمال البشري لها، مهما كانت فصاحة صاحبه، ومهما بلغ شأوه في ميدان البيان، والبلاغة، وبالطبع لا يجوز المقارنة بين كلام الله، وكلام من سواه، وأنَّ المقارنة لا تصح، وهذه حقيقة دقيقة، ثم قال الله تعالى:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الاسراء ـ 88)، بل لئن اجتمعوا على أن يأتوا بعشر سور فقط من مثله، ولو اجتمعوا على أن يأتوا بسورة واحدة من مثله لما استطاعوا، ولما قدروا لأن القرآن الكريم هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، والجملة القرآنية ذات دلالات كثيرة، ومعانٍ متعددة، وعطاءات متواصلة، فهي كالماسة أينما نظرت إليها أعطتك جمالًا جديدًا، ومذاقًا فريدًا، فهي تختلف من ناظر إلى آخر، ومن مفسر إلى مفسر، حيث لا يشبع منها العلماء، ولا تخلق على كثرة الرد، وهو ما جعل تفاسيرها تتعدد، وتتنوع، وتكثر على مر الحياة، وتعاقب السنين، وذهاب الأيام، فهناك آلافٌ مؤلَّفة من التفاسير القرآنية، حسب مشارب أهلها، وتخصصات ذَوِيها، ووفْق ما يسكبه الله في قلب العبد، وعلى لسانه، وفي يده من فتوحات الكتاب العظيم، وفيوضات الله على محبِّي كتابه وتلَّائيه، والهائمين به في كل مكان، وزمان: غُدُوًّا ورواحًا، مساءً وصباحا، صيفا وشتاءً، سفرا، وبقاءً، وسورة الهمزة من سور الكتاب الكريم، هي تسع آيات، وقد تضمَّنت عددًا من تلك الجمل القرآنية الكريمة التي حصَّلنا من ورائها قيمًا كثيرة، وتربوياتٍ جليلة، نختصر بعضًا منها، حيث لا يمكن أن نحيط بها علمًا، ولكنْ، ندور حول ظلالها دورانَ المحب حول حبيبه، رجاءَ أن يعطيه بعضًا من رِيِّه، ورُوَائه، وشيئا من كرمه، وعطائه، يقول الله عز وجل:(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (الهمرة 1 ـ 9).

بدأت السورة الكريمة بجملة تهديد، مبدوءة بكلمة منكرة لإفادة العموم والشمول:(ويل لكل همزة لمزة)، أي الويل والهلاك المحقق بكل ألوانه، وأطيافه وأصنافه لهؤلاء الهمَّازين للناس في أقوالهم وألفاظهم، المتساهلين في إهانة الخلق، واللمَّازين بأفعالهم، وإشاراتهم بأعينهم، وأيديهم، ولَيِّ ألسنتهم، فهناك متفنِّنون في الإهانات اللفظية القولية، والإهانات الفعلية الإشارية، يتندَّرون هنا، ويَلوون ألسنتهم، ويُدِيرون أعينهم، ويحرِّكون أصابعهم تارة إهانة وتصريحًا، وتارة إشارة، وتلميحًا في حق أناس أبرار، ورجال ونساء أطهار، ما يعرفون إهانة، ولا زلفت ألسنتُهم بقول في حقِّ أحد، اللهم، إلا أنهم أناسٌ ملتزمون، وعلى ربهم يتوكلون، وفي الله ولأجله يعملون، وما يروق لأمثال هؤلاء الهمازين اللمازين وجودُ الطيبين الذين يسمونهم بأسماء متدنية، ويُسمعونهم ألفاظًا جارحة، بل مبكية، كأن يقولوا لهم على سبيل المثال: (دراويش ـ بتوع ربنا ـ مهاويس ـ أُخِذَتْ عقولهم ـ يأكلون مع الملائكة ـ قوم ضيعوا عقولهم ـ المتفيهقون ـ أصحاب المقامات والأحوال ـ أهل الميتافيزيقا ـ الشُّعْث ـ الغُبْر ـ الآكلون بدينهم ـ المتظاهرون بالورع ــ المُدَّعُون) .. ونحوها من عبارات جارحة مبكية للقلوب قبل العيون، وأهلُ الله يسمعونها، فيَسكتون، ويَدْعُون لهم بالهداية، ويَمضون لله عابدين، يملؤهم الأسى والحزن من هذا اللمز، وذاك الهمز، وينظر كبيرُ السن الذي جعل ربَه قبالة عينيه إلى أحدهم، فيراه يرمي بطرفه، يرنو إليه رُنُوَّ احتقار، مستصغرًا سلوكَه، وهيئته، وعبادته لله، متندِّرًا عليه بالقول، وتجد آخرَ يلوي بلسانه محتقرًا صنيعه، وثالثًا يرميه بعينيه شَزَرًا، ورابعًا يشير بيديه:(أن خذنا على جناحك للجنة التي تعمل لها)، وكله كلام لا يليق بالملتزمين، ولا يتناسب مع طبيعة عبادتهم، ورقيِّ مسلكهم، ولمَّا كان كذلك حاصلًا في المجتمعات المسلمة جاء الوعيد والتهديد مفتوحًا بأسلوب التنكير:(ويلٌ لكل همزة لمزة)، والويل وادٍ من أودية جهنم، تستغيث منه أودية جهنم، من شدته، وخطورته، فالجملة مفتوحة المعاني، واسعة الدلالة، وتأتي كلمة (كل) لتشملهم جميعًا، لا يشذُّ عنها أحد ممن وُصِفوا بذلك، و(ويلٌ) مبتدأ، و(لكل همزة لمزة) خبره، وقد جاء التعبير هنا واردًا بالجملة الاسمية، التي تعني ثبوت الحكم، واستمراره، وأزليته حتى نلقى الله تعالى، فأصل وضع وهدف الجمل الاسمية في اللغة العربية هو الثبات والاستمرار، وتنكير (همزة ولمزة) يُدخِلُ فيه كلَّ مَنْ وُصِفَ بذلك: كبيرًا أو صغيرًا، رجلًا أو امرأة، أبيض أو أسود، وهذا الوزن هو من أوزان صيغ المبالغة، أو من أوزان الصفة المشبهة التي تلتصق بصاحبها مدى حياته، ولو كانت من أوزان المبالغة فتعني أن تلك أمست كأنها طبيعته، وهو دائما همَّاز لمَّاز، لا يفارق صفته، ويبالغ فيها عند ارتكابها، فقد حققت الجملة القرآنية دلالة تربوية خطيرة، ورسمتْ حكمًا صعبًا لا يمكن لأحد حذفُه، أو منعُه عن صاحبه المتصف به، ولا زحزحته عنه، وبمفهوم المخالفة وفحوى الخطاب أن مَنْ لم يكن كذلك فطوبى له، وحسنُ مآب، فالقرآن له وجهان: الوجه الأول: ما تعطيه ألفاظه الأولية، والوجه الثاني: فحوى الخطاب، وما وراء اللفظ، وماصدق العبارة، ومفهوم المخالفة، فالجملة القرآنية معطاءٌ، وذاتُ رِيٍّ دلاليٍّ كبير، لا يتوقف على زمن، ولا على رؤية شخص، بل يعطي المزيد لمن يريد، ولا ينتهي لها عطاء، وفي (همزة ولمزة) جناس يَشِي بمعنى كلٍّ منهما، حيث قُرْبُ الدلالة، وتنوُّع طرقها، والتشكيل الصوتي والصرفي للكلمتين يبرز حجم معناهما، وكثرة دلالاتهما، لكنْ يقتربان في أنهما كلمتا تحقير، وانتقاص، وابتذال، وسوء أدب من الهامز اللامز الذي هو قليل الحياء، كثير الهذر والعبث بأقدار الناس، ويمتهن منازل العباد، والأبرار، وهذا أخطر ما في الهامز اللامز: أنه لا ينزل الدينَ، ولا الناسَ الملتزمة به منازلها، ويستوي عنده الكبير المحترم، والمخترم، كما يساوي بين العالم والجاهل، والعابد والجاحد، ولا يملك معيار الحكم الدقيق، فهو يطلق لسانه، ويلوغ في أقدار الناس، ويسهُل عليه همزُهم ولمزهم، المهم أن يُرضِيَ نفسه الدنيئة، ويُضحك مَنْ حوله من أسافل الناس الذين يتضاحكون معه، ويجارونه في سوء فعله، ولا يمنعونه أذى الناس، ثم تأتي الآية الثانية:(الذي جمع مالا وعدده) جملةً وصفيةً يمكن أن يكون اسم الموصول فيها خبرا لمبتدأ محذوف، والتقدير كأنَّ واحدا سأل: من هو الهمزة اللمزة؟، فيأتيه الجواب سريعًا: هو الذي جمع مالا وعدَّده، أو أنها صفة مفردة، ولا يوجد فيها حذف، فالهمزة اللمزة وُصِفَ ثانيةً بأنه جَمَّاعٌ للمال، مِعْدادٌ له كل فترة، لا يَمَلُّ من ذلك، فهو كثير العدِّ له، رغم معرفته بِعَدِّهِ سلفا، لكنْ، هذا شأنه، وتلك طبيعته: الخوف المتواصل، والرعب الحاصل، وكأن حياته أمستْ مبنيةً على الجمع والعَدِّ، ولا شأن له بدينه، وربه، وطاعته، وتحسين سلوكه، والجملة الفعلية التي هي صلة الموصول:(جمع مالا وعدَّده) جاءت بالفعل الماضي، لا المضارع، فمع أنه جمعه إلا أنه يُعدده بشكل مستمر، بدليل التشكيلة الصوتية للفعل:(عدَّده) فهي بوزن (فَعَّلَهُ) بتشديد الدال، ولم يقل:(عَدَّه) بوزن (فعَلَهُ)، بل قال:(عَدَّدَهُ) بدالين أولاهما مشددة، كأنها ثلاثة دالات، مما يوضح كثرة فِعْل هذا العدِّ، وتنكير (مالا) تدل على أنه أنواع منوعة، وليس نوعا واحدا، فهو يجمع الدولار، والجنية، والريال، والليرة، والشيكل .. وغيرها من العُمْلات، على اختلاف أوزانها المالية، وكمياتها.