مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019
الرئيسية - المشهد اليمني - نيروبي.. الماء والخضرة والقلب الحسن

نيروبي.. الماء والخضرة والقلب الحسن

الساعة 04:17 مساءً ([خاص] المشهد الخليجي - د. ثابت الأحمدي)

هنا نيروبي، وسعيد ــ سائق السّفير ــ ينتظرني في البوابة الخارجيّة لمطار نيروبي الدولي. لمحني قبل أن ألمحه، فأمسك بيدي وابتسم، ثم بدأ بسحب الحقيبة باتجاه كونتر الجوازات، لاستكمال إجراءات الدخول، ثم الصالة الداخلية، ومنها نحو موقف السيارات. 
حين فتح بابَ السيارة لمحتُ المِقود على يمين السّيارة! وللتو أيقنت أن كينيا مستعمرة بريطانية سابقة. في الحقيقة لم أعرف هذا إلا في تلك الليلة، بعد أن لمحت مقود السيارة. 
الزمان: فجر يوم 4 ديسمبر 2023م، وهو فصل الصّيف بالنسبة لكينيا، مطر خفيف وهواء من هواء الجنة، أعاد إلي ذكريات هواء ريفنا الجميل في الزمن الجميل قبل ثلاثين عاما وأكثر..! 
والسيارة تزحف باتجاه قلب المدينة بدأتُ أحدق في كل شيءٍ بتلهف وشغف، الطريق هادئ والحركة بطيئة، وهواء كينيا العليل ينفحنا برذاذه النقي. نعم النقي، غير هواء كل المدن الكبيرة التي عرفناها. 
أمطرتُ السائق بعدد من الأسئلة، من بينها وجود بريطانيا سابقا في كينيا الذي أردتُ التأكد منه بطريقة غير مباشرة، فأكد ذلك، ولم أسأله عن سبب قيادته للسيارة بهدوء، هذا ما يروق لي أساسًا، وذلك ما لمحته لدى الكينيين بشكل عام، وتطبعت عليه خلال أيام إقامتي في نيروبي، لتنسيني القاهرة هذه الشعور فور وصولي إليها لاحقا بضجيجها وصخبها الذي نستلذه على أية حال. في القاهرة كل شيء جميل.
سلوك الكينيين العام يشبه سلوك العدنيين إلى العام 90م قبل أن تتحول عدن إلى قرية كبيرة، وقبل أن يغير معالمها القرويون المتصارعون فيها. الهدوء، إعطاء حق الأولوية في السير، الابتسامة على شفاه الناس. وعناصر من النشالة واللصوص ليلا، خاصة في الأوقات المتأخرة. 
"إذا اعترضك اللصوص والنّشالة ليلا فسلّم لهم كل ما بحوزتك ولا تقاوم أبدًا. قد يقتلونك". هكذا نصحنا سعادة السفير اليمني في كينيا الأستاذ عبدالسّلام العواضي؛ لهذا لم أخرج ليلا إلا نادرًا وإلى أماكن محدودة فقط، وإذا خرجت فلا أصطحب معي إلا بضع مئات من الشلنجات الكينية، "الدولار الأمريكي الواحد يساوي 155 شلنجا" وهاتفي الذي لم أحمله بين يدي هناك، كما نفعل في شوارع المملكة العربية السعودية، بكل أمان واطمئنان؛ بل في جيبي. رعى الله المملكة، تسير من بوادي الشام إلى أطراف اليمن، لا تخاف إلا الله و "ساهر".! الأمان قرينك أينما اتجهت. ثمة حسنات أخرى كثيرة للمملكة لا تعرفها إلا إذا زرت بلدًا غيرها. 
في الدور الثامن من المنتجع السكني الباذخ الذي نزلتُ فيه لم أسترخ على السّرير الذي ينتظرني بعد ما يقارب خمس ساعات طيران من القاهرة إلى نيروبي، وبعد سبع ساعات ترانزيت، وقبلها ثلاث ساعات من مطار الملك خالد بالرياض إلى مطار القاهرة، فتحت النافذة لأتملى مشاهد طبيعية في غاية الدهشة والجمال. في نيروبي الأشجار لا تزين المنازل، العكس هو الصحيح، المنازل تزين الأشجار. كأنما توسعت المدينة في غابة كثيفة متشابكة، أينما اتجهتَ فثمة دوحة غناء تملأ ناظريك. لقد رأيت أدواحا وروضات كثيرة؛ لكنها جميعًا دون أدواح وروضات نيروبي وضواحيها المدهشة. 
أشعة الفجر تنشر خيوطها بهدوء، ولا صوت للأذان هنا. سأصلي الفجر. أين القبلة؟ لا أدري. حسنًا سأجتهد نحو أي اتجاه، من منطلق: (أينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله). وهو ما كان. سأغلق الهاتف نهائيا، وسأخلد الآن للنوم، لأن ثمة التزامات تنتظرنا لاحقا. فأنا من المخلصين لنومي، ولا أكاد أفرط فيه إلا ما ندر. إخلاصي لنومي كإخلاصي لعملي، وكلاهما يكملان بعض. "لو وقعت السماء على الأرض وأنا نائم، فلا توقظوني". هكذا أقول لأولادي دائما..
بعد الظهر كان سائق السفير ينتظرني في فناء الفندق، توجهت نحو منزل سعادته مع الشاب الخلوق والمهذب فاروق أبو قطينة، وبأخلاقه المعهودة وكرمه الباذخ يستقبلنا سعادته على مائدة باذخة، مع ضيوف آخرين، عرب ويمنيين، منهم الوالد المناضل اللواء حسين العواضي العجي، محافظ محافظة الجوف الذي منح المقيل ألقا من نوع خاص. حسين العواضي صاحب تاريخ، وصاحب رؤية سياسية ناضجة، وصاحب روح استثنائية بديعة. الجلوس إلى جانب العم حسين متعة وفائدة معا، يذكرني برفيق دربه الوالد المناضل عبده مرشد. 
في زيارة للسّفارة اليمنية في نيروبي، ستجد السفارة صورة مصغرة من اليمن الكبير.. مبنى عتيقًا منذ السبعينيات شبه متهالك؛ أما سُور السفارة فالشروخ عليه واضحة، والكل ينتظر أن ينهدَّ في أي لحظة، ولا معالجة له من قبل الحكومة رغم المتابعة، وكل ما استطاع السفير تدبيره هو تدعيمه بأعواد خشبية طويلة، لا لتوقف انقضاضه، ولكن لتمنع المارة من الاقتراب منه أثناء مرورهم، حتى لا ينهد فجأة عليهم.!  
بإمكانياتٍ محدودة للغاية يعمل سعادة السفير ليلا ونهارا لخدمة اليمنيين هناك، رافقتُه ذات زيارة إلى أحد أقسام الشرطة حيث يتم احتجاز يمني فيه بسبب وثائقه، لم يُقصر في حقه، تعامل مع هذه الحالة، كما لو أنه أحد أقاربه. 
هاتفه لا يكاد يتوقف عن الاتصالات وطلبات المساعدة والاستشارات. ثمة ما يزيد عن مئة ألف يمني في كينيا، ما بين مهاجر ومغترب ومتشرد، يتركزون أكثر في مومباسا الساحلية، وأيضا في نيروبي العاصمة التي تبتعد عنها بما يزيد عن 400 كيلو متر. إلى جانب بعض المدن الأخرى، بعضهم منقطع عن اليمن بصورة نهائية أو شبه نهائية، وقد تزوج من كينيّة وأنجب واستوطن وحسن حاله و "تَكيّن"، وآخرون عاطلون عن العمل، وآخرون يبحثون عن لجوء، وجميعهم يذكرونك بتلك الصورة التراجيدية البئيسة التي جسدها البردوني في قصيدته الشهيرة: "غريبان وكانا هما البلد":
ما اسم ابن أمي؟ سعيد في تبوك وفي
سيلان يحيى، وفي غانا أبو سند
وأنت يا عم؟ في نيجيريا حسن
وفي الملاوي دعوني: ناصر العَندي.
نعم.. هذا هو اليمني المشرد البئيس، خفت أن يسألني أحدهم، باعتباري جديدا قادما على كينيا: "ماذا جرى في السنين الست من سفري"؟ ولن أرد بغير القول: "طير ايش بك؟ تشتكي قل لي أنا مثلك غريب".! أنت في كينيا وأنا في الخليج. وجميعنا نبحث عن وطن مخطوف! 
في مكتبه سرد السفير بعض همومه والإشكالات التي يواجهها بصورة يومية، وإهمال حكومتنا لمطالب اليمنيين هناك لم أملك إلا أن أقول له: "ما معنا إلا الحاااااصل". "اشقَ بما تلقى". والجملة الأخيرة من تعليمات أحد زملائي التربويين أثناء عملنا في التربية سابقا. 
ما تجدر الإشارة إليه هنا أن نيروبي واحدة من أبرز المدن الإفريقية سياسيا وتجاريا، تزيد عدد الشركات الدولية فيها عن مئة شركة عابرة، وهي كذلك مركز لكثير من المنظمات الدولية الفاعلة، أبرزها منظمة الأمم المتحدة للبيئة UNEP  وأيضا المركز الرئيس للأمم المتحدة في أفريقيا والشرق الأوسط.

نيروبي.. التاريخ والسياسة
نيروبي في لغة قبائل الماساي الكينية تعني الماء البارد، ولا تخالها إلا الصورة التي عناها ابن خفاجة الأندلسي في وصفه للأندلس: 
يا أهلَ أَندلسٍ للَّهِ دَرُّكُمُ
ماءٌ وَظِلٌّ وَأنهارٌ وَأشجارُ
ما جَنّةُ الخُلدِ إِلا في دياركم
وَلَو تَخَيَّرتُ هَذا كُنتُ أختارُ
لا تَختَشوا بعد ذا أَن تَدخُلوا سَقرا
فَلَيسَ تُدخَلُ بعدَ الجَنّةِ النارُ.
في موسم الأمطار تفيض شوارع وأزقة نيروبي بالسيول المتدفقة، لهذا تجد أحواض ومجاري المياه على حافتي شوارعها بصورة ملفتة، وغير معهودة في أي مدينة، وهي تدخل ضمن قبائل الماساي التاريخية، تم تأسيسها كمدينة عصرية نهاية القرن الثامن عشر على هامش خط سكة الحديد التي تربط مدينة مومباسا الساحلية، شرق كينيا بأوغندا، ومثلت مطلع القرن العشرين عاصمة لمستعمرات شرق افريقيا البريطانية، يزيد عدد سكانها اليوم عن ثلاثة ملايين نسمة. 
بلمحة أولية على طبيعة المدينة تلحظ تناقضا بائنا: ناطحات السحاب السامقة وأكواخ الفقراء المتواضعة. الغنى الفاحش والفقر المدقع، أغنياء كثر، ومتسولون أكثر! سيارات فارهة من أحدث الموديلات والماركات تملأ شوارع المدينة إلى جانب العربات والدراجات النارية. الاهتمام بالبيئة إلى حد انعدام الأكياس البلاستيكية والتعامل مع أكياس قماشية في المولات والمتاجر، مع نسيان كثير من الشوارع دون تأهيل لها، وإن بدت نظيفة، ونقائض أخرى هي دليل على بداية نهضة قادمة، مثقلة بركامات الماضي. تحتاج هذه النهضة إلى أشياء كثيرة من بينها الانتصار لقيم العدالة وإنصاف المواطن الإفريقي من استبداد الشركات العابرة للقارات التي تستغل عرق العامل وجهده بأقل الأثمان. العامل هناك يبدو مهدور الحقوق كثيرا. لم أطلع على قانون ولوائح أجور العمل؛ لكنها تبدو لصالح الشركات والمستثمرين أكثر منها في صالح الموظفين. 

المرأة الكينية.. ثقة بلا حدود
ثمة ملمح اجتماعي آخر يبدو من ثقافة أوروبا لا من ثقافة أفريقيا، وهو مشاركة المرأة الكينية لأخيها الرجل في العمل جنبا إلى جنب بصورة ملفتة وفي كل مكان؛ بل تكاد المرأة تسيطر على بعض القطاعات كالمحال التجارية الصغيرة والمطاعم والبوفيهات والأزياء وغيرها، مع اعتدادها بقوة شخصيتها وثقتها بنفسها؛ لهذا لم أستغرب وجود حارسات ليليات من النساء جنبا إلى جنب مع رفاقهن الرجال في البوابة الخارجية للمنتجع السكني، ولم أستغرب أيضا السباحة المختلطة في مسابح المنتجع ومسابح الفنادق الفخمة، وحركة المرأة في الشارع العام. ما استغربته أن تخلع امرأة إزارها السواحلي ونحن في المصعد ذات ليلة وليس تحته خيط واحد، وتعيد ترتيبه من جديد بكل هدوء وثقة، وكأنها وحيدة في غرفة نومها. ما أطول تلك اللحظات وأشقاها..! 
لغة الناس في كينيا هي الإنجليزية ثم السواحلية، وثمة لغات أخرى أيضا، تتركز الإنجليزية في نيروبي وما حولها، وتتركز السواحلية في مومباسا وما حولها، وبالمناسبة ما يزيد عن 50% من اللغة السواحلية كلمات من أصل عربي، نقلها التجار اليمنيون فالعمانيون من زمن طويل، واللغة السواحلية تمتد من الصومال إلى الكونغو، ولا تقتصر على بعض المدن الكينية فقط. في مومباسا الساحلية على المحيط الهندي يتركز أغلب اليمنيين من الأصول الحضرمية والمهرية والعدنية، كونها تربط تجارة الصين بالهند بأفريقيا من زمن قديم؛ أما نيروبي فلغتها الإنجليزية، وهو ما سهل التعامل معهم بعض الشيء، لهذا حرصت قدر الإمكان على الاقتراب أكثر ممن حولي. دعاني أحد النزلاء الجيران إلى زيارته، وكان مع زوجته وطفليه، رحبت بالدعوة ودخلت معهم، وبينما كانت زوجته تعد الشاي قدم لي قارورة الماء، ثم صبّ كأسا من الشراب.. وقبل أن يناولني أراد أن يتأكد: هل أنت مسلم؟ نعم. هكذا أجبت. اعتذر لتوه عن تقديم الشراب، وأبعده من أمامي، بعد أن شعر بالحرج، ولإبعاد الحرج عنه، علقت بالقول: I love drankers, and Im not one of them"". "أحبُّ الشّاربين ولست منهم". أطلقها ضحكة مدوية، وقد زال عنه بعض الحرج الذي بدا عليه سابقا. الرجل ــ كما تشي ملامحُه ــ على قدر عالٍ من الترقي والمستوى العلمي. 

ليمورو.. الجنة في الأرض
لا أظنّ أن ثمة مشهدًا طبيعيًا في العالم كله يفوق مشهد مزارع الشاي في ليمورو، خارج نيروبي، على بعد ساعة واحدة منها، جمالا ودهشة. 
عبر برنامج سياحي على النت تستطيع حجز موعد سياحي لزيارة مزرعة ما، ولا أتوقع أن ثمة مزرعة تفوق مزرعة "فيولا". من فيولا هذه؟
كينية من أصول بريطانية، عمرها 85 عاما، أو بالأصح بريطانية من أحفاد المحتلين، وطبعا لم يرحل كل المحتلين البريطانيين من هناك كما فعلوا في عدن، بقي منهم الكثير، وإلى اليوم، كما بقي بعض من الأتراك في اليمن عقب الحرب العالمية الأولى. توارثت "فيولا" هذه المزرعة عن جدها، ثم أبيها. وهي تشعر بالأسف اليوم ــ كما حدثتنا ــ لأن أبناءها غير مهتمين بهذه المهنة. إنها تمارس هذه المهنة كمهنة وهواية معا، تبدو عاشقة لعملها محبة له. وصلتُ المزرعة مع صديقي فاروق، ضمن فريق آخر من جنسيات عالمية مختلفة، كان كل شيء جاهزا، الأكل والشرب والعصائر...إلخ يرافق "فيولا" كلب حراسة "بودي جارد" مُدرَّب، مع أنثاه، يتبعها كظلها أينما تحركت، وتتعامل مع ضيوفها بكل بشاشة ورقة. قضينا ساعات قليلة، مرت وكأنها لحظات بين أحراش الغابات الصغيرة ومزارع الشاي، لنعود بعدها لتناول وجبة الغداء داخل المزرعة مع فيولا ومساعديها. عدنا بعدها إلى مزارع البُن أيضا والتي تشبه مزارع بُن اليمن تماما، لا فرق، فضلنا أن نشتري عينة منه، ونحملها معنا. وعلى مزاج هذا البن، وأيضا الشاي الكيني اللذيذ الذي أهداني إياه سعادة السفير كتبت هذه المادة في الرياض..! 
في الطريق ما بين نيروبي ومزارع الشاي في ضواحيها رافقتنا أحراش المزارع في جو من الغيوم وقطرات الأمطار، ومنتجعات جمالية بديعة تبدو لمستثمرين جدد، ودكاكين على الطريق مملوءة بالفواكه والخضار، وشباب آخرون يجلسون القرفصاء بلا عمل، إلى جانب آخرين على دراجاتهم النارية. بالمناسبة الظاهرة الشبابية في كينيا ملفتة إلى حد بعيد، من بين كل مئة مار في الشارع ستلحظ عجوزا واحدا أو اثنين فقط لا غير، فيما الكل من الشباب، تبدو نسبة الشباب عالية جدا. كما ستلحظ نوعا من اهتمام هؤلاء الشباب رجالا ونساء بمظهرهم. النساء بكامل زينتهن، بما في ذلك شعورهن المستعارة المضفورة على أشكال متعددة. المرأة الكينية لا شعر لها، هكذا وراثة؛ لذا فأماكن بيع الشعر المستعار في كينيا منتشرة بكثرة، في كل مول تقريبا. 
خصوبة الأراضي هناك استثناء من استثناء؛ لهذا لا تستغرب إذا لاحظت شجرة على خرسانة اسمنتية، اكتفت بقليل من الغبار، وما يمسكه الغربال من قطرات المياه التي تعلق عليه. أكاد أجزم أن كينيا لوحدها تستطيع أن تكفي أفريقيا كلها قاطبة من الفواكه والخضروات إن وجدت سياسة رشيدة لدولة تستطيع تقدير ثرواتها وما تملكه من مقدرات. قلت في نفسي: لو كان لي من الأمر ما لي لجعلت من هذه البلاد أغنى دولة في العالم. خصوبة أراضيها وحدها تضارع ثروة النفط الخليجية. وكم هو مؤلم أن تجتمع تلك الثروة مع تلك البطالة، ومع مناظر البؤس على وجوه البعض، بمن في ذلك المتسولون في شوارع نيروبي الذين يستجدون المارة ما تيسر من الشلنجات فيما الأرض تفيض ذهبا تحتهم. لقد صدق المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي حين قال: لا يوجد شيء اسمه بلد فقير، يوجد فقط حكومة فاشلة في إدارة موارد البلد". لا بأس أن ننتقد الأعور ونحن العميان الذين دمرنا بلادنا، فعلى أية حال كينيا بلد مستقر وأفضل حالا منا، وليس فيها حوثي، وهذا يكفي! 
خلال العقود الماضية عاشت كينيا حالات من الصراعات القبلية والحروب الداخلية الشديدة؛ لكنها مع القيادة الجديدة تعافت مؤخرا، وحسبما عرفت حُسم أمر النزاع على السلطة فيها بصورة نهائية، وهي اليوم ديموقراطية ناشئة، يتم تداول السلطة فيها سلميا، لذا عبرت إليها الشركات العالمية الكبرى، البريطانية والفرنسية والإسرائيلية والصينية، ويقال أن إسرائيل تسيطر على قطاع الاتصالات هناك. وثمة مستثمرون صوماليون وسودانيون ومصريون وهنود كثر؛ لكن ما يبدو مؤكدا أن ثمة استثمارا جيدا واستغلالا كبيرا أيضا. وما أسوأ الاستغلال! لا أدري عن حضور المملكة العربية السعودية هناك في الجانب الاستثماري؛ لكن وجودها مهم للغاية، ويجب أن تحضر. كينيا مجمع العالم كله، وتمثل مجتمعا مفتوحا للكل بلا استثناء، لذا قلّ أن تجد من ينظر إليك كغريب في هذا العاصمة، لأنها ملتقى كل الغرباء أصلا: الأوروبي والأفريقي والأسيوي على حد سواء. الكل يبتسم لك، والأغلب على قدر معقول من التعامل الراقي. في بعض الأماكن إن كنت تلبس ثوبا سيتم زيادة السعر عليك قليلا فقط، كما حصل معي حين لبست الثوب وخرجت البوفية! هناك، أنت تلبس ثوبا أبيضًا.. أنت خليجي حتما..! 

الدين
كينيا مجتمع متعدد الديانات، وذو أغلبية مسيحية بروتستانتية، تتبعها الكاثوليكية، دخلتها المسيحية لأول مرة على يد البرتغاليين الذين تعمدوا نشر المسيحية أينما اتجهوا، فعلوا ذلك في كل بلد وصلوا إليه، ليس ذلك فحسب؛ بل عملوا على محو الديانة الإسلامية في كل بقعة سيطروا عليها، وخاصة في شرق أفريقيا. عمل العثمانيون والعمانيون معًا على طرد البرتغاليين من مومباسا، ضمن مواجهاتهم للبرتغاليين في آسيا وأفريقيا، وشكلت أغلبية إسلامية شافعية المذهب، عربية اللغة، غير أن النفوذ العثماني لم يدم طويلا، فلكل آفة آفة، وآفة العثمانيين البريطانيون الذين بدورهم أخرجوا العثمانيين منها وبسطوا نفوذهم على الأراضي الكينية في مرحلة لاحقة، سنة 1895م، كما فعلوا في مناطق أخرى، ولم يدم بقاء البريطانيين أيضا طويلا، فقد ثار الكينيون على البريطانيين في العام 1952م، وعرفت ثورتهم بـ ماو ماو، التي تعني التصميم في الرأي. كان الشاب الثوري يقسم اليمين الثوريّة على التصميم في العمل الثوري وعدم التراجع، خاصّة مع تزايد القمع الوحشي من قبل البريطانيين ضد الكينيين. وهكذا فالأيام دول، ومن سره زمنٌ ساءته أزمان.!
 إلى جانب المسيحيين في كينيا الذين يمثلون أغلبية بنسبة 60% تقريبا، أيضا المسلمون الذي يمثلون حوالي 10% من إجمالي المجتمع الكيني، وثمة أديان محلية أخرى طابعها "أرواحي"، هي خليط من الثقافات الوافدة والمعتقدات المتوارثة العتيقة لدى القبائل الكينية. هذا لا يهم.. الأهم التسامح الديني السائد في أنحاء البلاد. في المسجد الجامع ذات الأربعة الطوابق صليت الجمعة مع سعادة السفير والصديق فاروق، كان المصلون خليطا من كل أجناس العالم، ويا للخشوع والرهبة التي لاحظتها على وجوه بعض المصلين الذين يتعمدون اصطحاب أطفالهم معهم. ويا لفصاحة خطيب الجمعة الذي لم أسمع منه غلطة لغوية واحدة؛ بل بدا متعمدا نطق مخارج الحروف نطقا صحيحا، ولإعجابي بفصاحته سجلت الثانية منها. وددت التعرف على الخطيب ومصافحته، لكن لم أستطع بين ذلك الزحام كله. 
صبيحة يوم "أحَد" حرصتُ على حضور القُدّاس الكنسي في الكنيسة الأرثوذكسية التي تجاورنا، وهي خاصة بالجالية الأثيوبية المسيحية في نيروبي. رنّ جرس الكنيسة، وللتو دخل الناس، دخلتُ معهم، كان لكل منهم طقوسه الخاصة في الارتباط بالسماء. يلفت انتباهك المتسولون من الفقراء على باب الكنيسة، والذين يدعون لك بالخير والبركة وكغيرهم من المستولين ينسون الدعاء لأنفسهم.! لا مانع أن تجود هنا بما تستطيع من المال للفقراء، بصرف النظر عن ديانتهم. في داخل الكنيسة تظاهرت بقليل من الخشوع مع القوم، والتقطت بعض الصور، دون نكير من أي أحد. لم أبق كثيرا في الكنيسة غادرتها سريعا، تحسبًا لأي اعتراضٍ من متشدد ما.. مسلم يحضر القُداس؟!! في الحقيقة لا أدري مدى قبول ذلك عندهم؟! الأصل في أماكن العبادة القبول بالآخر أيا كان، أو هكذا أرى. ربما هذا من تأُثيرات ابن عربي. ابن عربي مشروع تصوف فلسفي مؤجل بالنسبة لي. 
لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ  
فمرعىً لغزلانٍ ودير لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائفٍ  
وألواح توراةٍ ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني.


مع القات الكيني
كأي يمني تزور بلدا فيها تلك الشجرة الطيبة/ الخبيثة لا بد أن تثير فضولك. القات هناك يُزرع ويُباع بصورة طبيعية جدا، وله أسواقه الخاصة وله بائعوه المحترفون، غير أن قات كينيا لا سموم فيه، خلاف قات اليمن. تلتهم أغصان القات هناك بكل أمان. ولعل هذا ما يسرق لذة السياحة لدى بعض اليمنيين الذين يزورون كينيا، لا يكادون يخرجون من فنادقهم بسبب القات. والعجيب أن أغلب الشعب الكيني لا يتناول القات، الصوماليون والأثيوبيون واليمنيون هم رواد أسواق القات في كينيا. ما رأيت كينيا يتناول القات، بمن في ذلك الشباب والعمال والعاطلون. 

نيروبي.. إلى اللقاء
أغادر نيروبي وبودي ألا أغادرها، بودي أن أستمع لحديث الطبيعة وأستمتع بذلك الجمال الخرافي الآسر والهواء النقي الجميل. أعيش وسط قوم يوزعون ابتساماتهم على الجميع. وكعربي على وجه التحديد فأنا محل ترحيب لديهم، إن كان من نظرة غير إيجابية هناك لجنس ما فهي للهنود الذين يعتبرهم الكينيون مستغلين، على العكس من العربي، وربما اليمني بصورة أكثر فهو محل ترحيب الجميع. 
الساعة الخامسة فجرا نحن على موعد إقلاع الطائرة من مطار نيروبي الدولي نحو مطار القاهرة، أصر سعادة السفير الخلوق والمهذب إلا على وداعنا إلى الصالة الخارجية للمطار، وهو ما كان. وداعا نيروبي.. وداعا سعادة السفير.