إذا ما كان بمقدورنا استخلاص درس من تجربة الانتخابات الفرنسية التي انتهت للتو. فهو أن الديمقراطيات الغربية التي عرفناها خلال العقود الماضية، تدخل مرحلة احتضار، ولم تكن نتائج الانتخابات الأخيرة في فرنسا، إلا لحظة ردة فعل مستميتة من نخب تقليدية متهالكة تخشى تسليم فرنسا وأوروبا للتيار اليميني المتطرف ذي النزعات الشعبوية.
كذلك هو الحال تماماً في تجربة الديمقراطية الأميركية، إذ شكل انتصار الرئيس بايدن، محاولةً مستميتة لوقف التيار الشعبوي اليميني، الذي تصدره الرئيس ترمب الذي عمل وما يزال بشكل لصيق مع اليمينية الفرنسية مارين لوبن.
لقد شكل الانتصار الذي وصفته الصحافة الباريسية بالانتصار التاريخي للرئيس ماكرون تأكيداً عالمياً على أن الدول الأوروبية الكبرى ما زالت حتى اللحظة قادرةً على صد الأحزاب القومية المتطرفة، التي تريد إخراج فرنسا من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وهي المؤسسات التي حافظت على أوروبا الغربية موحدة ومستقرة.
ولأن انتصار ماكرون لم يكن فرنسياً فحسب، بل كان هاجساً أوروبياً، فقد قالها الرئيس الفرنسي عقب الانتصار، "إن الفرنسيين اختاروا فرنسا أكثر استقلالية، وأوروبا أكثر قوة". ولكن ماكرون أغفل الإشارة إلى أن الفرنسيين اختاروا هذه المرة فقط، لأن المؤشرات الحقيقية من واقع الإحصاءات تؤكد أن اليمين المتطرف في حالة صعود ولا يمكن للقوى السياسية الأخرى في فرنسا إيقافه، فنسبة 42 في المئة التي حققها في هذه الانتخابات تؤكد انقسام المجتمع الفرنسي، مقابل 34 في المئة حققها التيار نفسه في انتخابات 2017، و18 في المئة في انتخابات 2002.
العناوين التي تصدرت الإعلام الأوروبي والغربي تحدثت عن أن الأوروبيين حبسوا أنفاسهم وهم يتابعون الجولة الثانية في الانتخابات الفرنسية قبل أن "يتنفسوا الصعداء، ويطلقوا العنان لسعادتهم بهزيمة ماري لوبن". فقد أهاب قادة كل من ألمانيا وإسبانيا والبرتغال في مقال لهم نشرته صحيفة "لوموند" الباريسية، بالشعب الفرنسي "حسن الاختيار"، من حيث إن اختيارات الفرنسيين ستكون حاسمة بالنسبة إلى أوروبا، بخاصة في ظل مكانة فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والعضو المؤسس لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
وبعد أن تحقق النصر قال المستشار الألماني أولاف شولتز، إن من صوتوا لماكرون أرسلوا إشارة قوية لصالح أوروبا، فيما قالت المفوضية الأوروبية إن أوروبا بحاجة إلى فرنسا أكثر التزاماً باتحاد أوروبي أكثر سيادةً وأكثر استراتيجية. ولكن ما لم يقله الجميع في رسائل التهنئة بانتصار ماكرون، هو أن فرنسا أوروبية، ولكن إلى حين! لقد أوقف الفرنسيون سيناريو الخوض في طريق الشعبوية على شاكلة دونالد ترمب، أو البريكست على الطريقة البريطانية.
لماكرون كعب أخيل!
يقول السفير غيرارد أراود، كبير الباحثين في المركز الأطلسي في واشنطن، والسفير الفرنسي الأسبق لدى أميركا، إن الضبابية في السياسة الفرنسية، لم تحسم بعد لمعرفة ما إذا سيكون بوسع ماكرون الحكم بمفرده، أو البحث عن تحالف مع أحزاب أخرى من اليمين واليسار؟ وهذا ما سيقرره الفرنسيون في الانتخابات البرلمانية في يونيو (حزيران) المقبل، مضيفاً أن المشهد السياسي الفرنسي هو عبارة عن حقل من الخراب، مع سقوط الأحزاب التقليدية في يسار الوسط ويمين الوسط في الانتخابات، فيما لم يتمكن حزب "الجمهورية للأمام" الذي يتزعمه ماكرون والذي حافظ على الأغلبية في البرلمان المنتهية ولايته، من نشر جذوره عميقاً في فرنسا، وخسر كل الانتخابات المحلية منذ عام 2017، ولهذا فاليسار واليمين سيجتهدان لحرمانه من الفوز بالأغلبية البرلمانية.
الأرقام ليست مريحة بالنسبة إلى ماكرون، فليست المسألة أنه انتصر وكفى، إذ تشير الإحصاءات الانتخابية إلى أن 62 في المئة من الناخبين لم يصوتوا للرئيس، وأنه أعيد انتخابه بـ38 في المئة من عدد الناخبين المقيدين في سجلات الانتخابات، مقابل 42.6 في المئة في الانتخابات السابقة، وهذه النسبة هي الأدنى منذ انتخاب الرئيس جورج بومبيدو في عام 1969، فيما بلغت أعداد الممتنعين عن التصويت مستويات غير مسبوقة.
لم يكن انتصار ماكرون إلا بسبب خوف الناخب الفرنسي التقليدي من أخطار الفوضى التي سيجلبها اليمين الشعبوي المتطرف معه إلى السلطة. فالخطاب المتطرف بات يكتسح الساحة السياسية الفرنسية وصفوف الشباب الذين فقدوا الأمل في الأحزاب التقليدية ووعودها الجوفاء.
ولهذا خرج المتقاعدون وكبار السن والمحافظون الذين لا يرغبون في التغيير، للتصويت لصالح ماكرون في الجولة الثانية، على الرغم من أن جميع الفرنسيين باتوا محبطين من سنوات حكمه. وقد قالها ماكرون في أحاديثه التي تلت الانتصار إنه يدرك أن هناك من صوت له خوفاً من اليمين المتطرف، كما أن هناك من صوت لليمين واليسار المتطرف لمعاقبة ماكرون.
والآن يبقى التحدي المقبل أمام ماكرون في يونيو (حزيران) المقبل، فهل ستفضي الانتخابات البرلمانية إلى خلط الأوراق ووصول اليساري المتطرف جان لوك ميلانشون أو ممثل لليمين المتطرف إلى سدة رئاسة الوزراء، بعد أن أعلنت السيدة لوبن الانسحاب لبعض الوقت من الحياة السياسية؟ فعلى الرغم من توقعات استطلاعات الرأي من استحالة تحقيق اليمين واليسار المتطرف نتائج كبيرة في الانتخابات المقبلة في يونيو، فإن الوضع قد لا يكون مريحاً للرئيس ماكرون. من يدري فالملعب السياسي الفرنسي حقل من الخراب والفوضى وتشوبه حالة من ترقب وقلق.
نبرة الإسلاموفوبيا والدروس
في كل الحالات والتجليات المنظورة في المشهد السياسي الفرنسي، يتضح أن المسلمين باتوا هم الموضوع المركزي للسياسة والساسة الفرنسيين على مختلف مشاربهم، وباتوا يتسابقون في تقديم العروض لمزيد من تقييد الحريات الشخصية لمواطنيهم المسلمين، وكأنه ليس هناك من قضايا أهم تواجه المجتمع الفرنسي كالبطالة وتدهور مستويات المعيشة وانغلاق الأفق.
وفي فرنسا هناك نحو ستة ملايين فرنسي مسلم صوت غالبيتهم لمرشح اليسار المتطرف ميلانشون في الجولة الأولى، فيما دفعهم الخوف من احتمالية وصول اليمين المتطرف، إلى التصويت لماكرون في الجولة الثانية في ما سمي بـ"أهون الشرين".
وعلى الرغم من أن المسلمين الفرنسيين يشعرون بأنهم خدعوا في الانتخابات السابقة بوعود ماكرون الذي روج لقيم تقدمية اجتماعياً، وعاد وتراجع عنها في هذه الانتخابات لاحتواء اليمين المتطرف، فيما تسابق معه في تعميق الإسلاموفوبيا مرات ومرات. وعموماً فإن المسلمين الفرنسيين يشعرون أن حياتهم باتت معرضة لخطر متزايد عما كانت عليه بعد انتخابات 2017، ويدرك ماكرون فداحة ذلك.
الصورة العامة لما حدث في فرنسا خلال الأسبوع الماضي تحمل دروساً كبيرة ومتعددة وتنقل رسائل وخطابات متناقضة، جلها يؤكد أن الديمقراطية الفرنسية باتت تشيخ وأن أعداداً متزايدة من السكان لم تعد تثق بالطبقة السياسية. كما أن القوى الاشتراكية والديغولية التي هيمنت على المشهد السياسي الفرنسي لزمن طويل بدأت بالانحسار والتلاشي من المشهد السياسي الفرنسي إلى صفحات التاريخ.
التطرف اليميني واليساري تغول وبات يكتسب أرضية كبيرة مستغلاً الفئات الاجتماعية الأقل تعلماً، ومحدودي الدخل والشباب، عبر وعود خيالية بعيدة كل البعد من الواقع، ولن يكون بوسع هذه الأحزاب المتطرفة تحقيقها لهم، ولكنها وعود الشعبويين التي لطالما دغدغت مشاعر فاقدي الأفق.
ويرى الكثير من المحللين السياسيين أن اليمين واليسار المتطرف، عبر الأرضية الانتخابية التي اكتسبوها خلال السنوات الماضية والتي ترجمت في انتخابات 2022، باتوا يدقون ناقوس الخطر في المجتمع الفرنسي والأوروبي عموماً، مع عودة الخطاب الفاشي بعد مرور أكثر من 50 عاماً على سقوط الفاشية، فما نسمعه اليوم في فرنسا وإيطاليا والمجر وألمانيا والسويد ليس بعيداً من خطاب موسوليني القائم على ازدراء الآخر وشيطنته واعتباره سبباً لكل المصائب التي تواجه فرنسا وأوروبا اليوم.
إن معركة ماكرون ضد الشعبوية تشبه معارك دونكيخوته ضد طواحين الهواء، فالشاب الطموح ما زال مفعماً بالأفكار، فهل سيكون باستطاعته إعادة تماسك الانسجام الاجتماعي الفرنسي، ومواصلة إصلاح الاقتصاد، وإعادة ثقة الفرنسيين باقتصادهم وصناعاتهم وتنافسيتها، ولعب دور محوري في أوروبا وتجديد صورتها العجوز. هل سيكون بمقدوره تقديم رؤية استراتيجية ثقافية واجتماعية لفرنسا في الثورة الصناعية الأوروبية الرابعة، وعدم الاكتفاء بالمناورات والوعود السياسية التي يتحلل منها فور ضمانه البقاء في الإليزيه.
وزير خارجية اليمن الاسبق - عن "اندبندنت عربية"