مرت صورة البطل بتحولات كبيرة في الأسِاطير والأديان والتواريخ والحكايات الشعبية، وكلما انتقلت البشرية من طور إلى طور، طورت صور أبطالها مع كل مرحلة، وكلما تضخمت صورة البطل عكست إما محاولات للتعويض عن هزيمة مُرّة على يد عدو قاهر تحاول الصورة أن تخفف من وقعها، أو محاولة لاشعورية لترهيب ذلك العدو، وفي الحالين تكون الصورة المضخمة للبطل غير حقيقية وغير واقعية، إذ يحدث أن يلجأ الإنسان للخيال الواسع للإفلات من الواقع الضيّق، وأن تولّد الهزائمُ صوراً أسطورية لأبطال افتراضيين.
وكما تختلف صورة البطل من أسطورة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى غيرها فإنها تختلف من شعب إلى آخر، فالأمم التي عاشت حالة من ازدهار المخيال الأسطوري أخرجت أبطالها في صور خارقة يستعصون على الموت ويدمرون الأعداء، بل ويحاربون الآلهة ويتمردون عليها، كما نرى في الملاحم اليونانية والرومانية والفارسية وغيرها من منتجات ثقافات أواسط آسيا وأوروبا القديمة التي أسقطت الحواجز بين أبطالها وآلهتها.
ومع التقدم في التاريخ، والانتقال عبر الجغرافيا تتغير ملامح «الأبطال» فأبطال العرب قبل الإسلام ظهروا في صور أقل أسطورية وأكثر حضوراً في التاريخ، ذلك أن العرب لم يكن لهم نصيب وافر من مقومات الخيال الملحمي كما لدى غيرهم من الأمم والشعوب، لأن الصحارى والبوادي التي عاشوا لم تكن بيئة مناسبة لنشأة ذلك النوع من الخيال الذي يبني أبطاله الأسطوريين، وإن كان الشعر الجاهلي قد حفل بصور لأبطال كثر كانوا أقرب إلى النماذج الواقعية منهم إلى أبطال الملاحم الأسطورية.
وقد عرف العرب الكثير من الأبطال الذين برزوا في ثياب قبلية أو دينية أو قومية مثل عنترة بن شداد والمهلهل بن ربيعة وعمرو بن معديكرب الزبيدي وخالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وصلاح الدين الأيوبي وأبطال حروب التحرر العربية من الاستعمار الغربي مثل عمر المختار وأحمد عرابي وعبدالكريم الخطابي ويوسف العظمة وجمال عبدالناصر وغيرهم، وكانت صور البطولة لهؤلاء الأبطال تنحو منحى إبراز ملامحهم التي تتسم بالمواجهة الواضحة والالتحام الجماهيري.
لكن تلك الصورة التقليدية للبطل العربي الملتحم مباشرة بالجماهير بدأت تتلاشى مؤخراً من المشهد لصالح صورة أخرى لأبطال يعيشون بعيدين عن الأنظار ولا يلتقون بالجمهور بشكل مباشر، ولا يراهم أنصارهم إلا عبر أدوات وسيطة تقوم بإعادة إنتاج صورهم للجمهور الذي لا يطالعهم إلا من خلال شاشة تلفزيون صغيرة في المنازل، أو شاشة سينما كبيرة في الشوارع والساحات.
هذه الصورة للبطل الأقرب إلى سينما هوليود بدأت تنتشر مع توسع التكتيكات الإيرانية في إنتاج أبطال الشاشات الصغيرة والكبيرة، هذه التكتيكات التي تتفق وغريزتي الخوف على الحياة والرغبة في الظهور على حدّ سواء، فإخفاء البطل في أماكن سرية يتناسب وغريزة الخوف لدى هذا البطل، وإظهاره عبر الشاشة يتناسب وحبه للظهور، وبذا تكون تلك التكتيكات قد أشبعت لدى البطل رغبته في الظهور عبر الشاشة، وطمأنت غريزة الخوف لديه، بإخفائه في سراديب سرية.
هذه النماذج من الأبطال هي في الحقيقة أقرب إلى الصور التقليدية للوردات الحروب، أو رجال العصابات في أفلام السينما الغربية منها إلى صورة البطل الجماهيري التقليدي في المخيال الشعبي العربي، إذ يصعب إقناع التصور العربي ببطولة رجل لا يستطيع أن يخاطب جمهوره إلا من وراء شاشة، ولا يقدر على الظهور علناً في الساحات والميادين العامة أمام جمهوره وفي المناطق التي يسيطر عليها.
وقد استهلت آلة الدعاية الإيرانية هذه الصور الممنتجة بصورة لزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله الذي تصوره عدسة الإنتاج على هيئة البطل الذي لا يهاب الأعداء، في مفارقة عجيبة بين الصورة التي لا تهاب مواجهة الأعداء المتربصين والأصل الذي يخشى مواجهة الأنصار المخلصين بشكلٍ مباشر، وفي مربعاته الأمنية الأكثر تحصيناً.
وبعد أن كرست آلات الإنتاج الفني الإيرانية صورة «بطل السرداب» في لبنان لدى شرائح شعبوية بعينها عملت تلك الآلات على إعادة إنتاج نسخ كربونية في بلدان عربية أخرى للبطل السينمائي ذاته، وأصبح لدينا «أبطال سراديب» آخرون في كل من العراق واليمن، حيث تنتشر الشاشات والجداريات واليافطات والشعارات التي تريد أن تقنع الجمهور ببطولة أشخاص يقبعون في سراديب سرية، ولا يجرؤون على مواجهة جمهورهم إلا من وراء شاشة، وذلك لأجل إخفاء مظاهر ضعفهم وإضفاء المزيد من الغموض حول شخصياتهم، ذلك أن السرية وأجواء الغموض تهيئ لتوسيع التصور المساعد على أسطرة الأشخاص ومحو مظاهر ضعفهم، وإطلاق العنان للمخيال الشعبوي لتصورهم على كل صور البطولة الممكنة.
ومن هنا لا يخاطب هؤلاء «الأبطال» جمهورهم غالباً إلا بخطابات معدة سلفاً ومن أماكن غير معروفة وعبر شاشات وسيطة، إمعاناً في نشر حالة من الغموض حولهم بالقدر الذي يتيح أسطرتهم في مخيال البسطاء من الجمهور، إذ أن رؤية الشخصيات بشكل مباشر ينزع عنها ما يراد لها من مواصفات أسطورية خارقة يسعى من خلالها منتجو هذه الشخصيات لتدجين الجمهور عن طريق صورة البطل الممنتجة لا شخصيته الحقيقية، بالإضافة إلى استعمال تكتيكات أخرى مثل الشعارات والهتافات والجداريات الضخمة لهؤلاء الأبطال الافتراضيين الذين تعلق صورهم في الشوارع العامة والمؤسسات الرسمية للدولة التي تتحكم بها ميليشيا هذا «البطل» أو ذاك.
والواقع أن الذائقة العربية التي تعشق الأبطال الواقعيين لا تستطيع تصور بطل لا يجرؤ على الظهور إلا عبر شاشة وسيطة، خوفاً من الاغتيال، وهو ما يشير إلى أن تلك الصور نتاج مخيال غير عربي، وهذا المخيال هو ذاته الذي أعاد إنتاج الحسين بن علي بمواصفات وملامح بعيدة عن الشخصية العربية الحقيقية التي عاشت في بيئة عربية بسيطة، وذلك في محاولات لتغريب هذه الشخصية عن بيئتها العربية، عبر تكتيكات ضاربة في المخيال الفارسي المعروف بأسطرته للشخصيات والأحداث، وذلك لغرض تسييس صورة الحسين الممنتجة والبعيدة عن بيئتها العربية لخدمة السياسات التي حولت الحسين إلى وسيلة تكسب سياسي لمشروع بات معروفاً أنه ضد تطلعات الشعوب العربية وآمالها.
هذه التكتيكات الفنية هي ذاتها التي سعت إلى أسطرة شخصية علي بن أبي طالب، وهو رجل عربي أعيد إنتاج ملامح شخصيته بمواصفات غير عربية، بل وفوق بشرية، بعد أن تم تصويره بقدرات إلهية، «تنزل المطر وتسير السحاب وتتحكم في ذرات الكون». ومما لا شك فيه أن رفع شخصية الإمام علي إلى هذا المستوى لم يكن فعلاً اعتباطياً، ولم يكن فعلاً عربياً كذلك، ذلك أن المخيال العربي الحقيقي لا يستطيع تصور الإنسان/الإله، ولكن تلك الصورة الإلهية للإمام علي تضرب بجذورها في عمق مخيال فارسي خصب، أعاد إنتاجها لخدمة الأغراض ذاتها التي أعيد لأجلها إنتاج أشخاص عاديين اليوم على هيئات أسطورية، ليتسنى لهؤلاء الأشخاص التحكم في الجمهور لا خدمته، والسيطرة على الدولة لا بناؤها، خدمةً لمشروع الهيمنة الإيراني الذي بات واضحاً أنه يستعمل «التشيع السياسي» بكل أدواته الدينية والفنية والسياسية والعسكرية لخدمة دولة «ولي أمر المسلمين، الولي الفقيه العادل علي خامنئي» حسب تعبير حسن نصر الله، زعيم حزب الله في لبنان.