الأصل في العلاقة بين الإله والإنسان – في التصور الإسلامي على الأقل – أنها ليست علاقة انتساب، فهو ليس «أباً لابن» ولا «رباً لجنود»، بل العلاقة هنا هي علاقة خالق بمخلوق أو رب بمربوب، وأقول في التصور الإسلامي، لتمييزه عن غيره من أنماط التصورات الدينية المختلفة، سواء في «الديانات الأسطورية» لدى الحضارات القديمة التي كانت تنظر للملوك على أساس انتسابهم إلى «سلالة الآلهة» أو على اعتبار أنهم «أنصاف آلهة»، كما في الديانات المصرية والهندية واليونانية والفارسية القديمة.
ومع حلول مرحلة الديانات الإبراهيمية التي سيطرت على مساحات روحية شاسعة بدأ المنحى الأسطوري في التفكير الديني يضمحل، لتصبح الأديان أكثر قرباً من الأرض، بعد هبوطها من قمم الجبال الأسطورية إلى واقع الناس المعيشي، حيث بدأ الفصل بين الإله والإنسان يأخذ مساره، إذا استثنينا اختلاط الأمر في بعض جوانب التفكير الديني اليهودي-المسيحي، حيث يُنظر لليهود على اعتبار أنهم «شعب الله المختار» فيما يُنظر للمسيح على اعتبار أنه «ابن الله»، في انتساب مباشر لله يوحي ببقايا أسطورية في نسغ التفكير الديني اليهودي-المسيحي.
ولما جاء الإسلام توّج المرحلة الإبراهيمية، وأعاد الاعتبار لها بوضع حد واضح يفصل بين الإله والإنسان، ويسقط إمكانية الانتساب إلى الله بشكل قطعي، حيث ظل القرآن الكريم يؤكد في نصوص كثيرة، على نفي «الشرك»، وإثبات «التوحيد»، قبل أن تتسرب من ديانات قديمة إلى بعض جوانب التفكير الديني الإسلامي عقائد مثل «الحلول والاتحاد»، كما لدى بعض المتصوفة، أو مثل إسقاط صفات الإله على «الإمام»، كما لدى بعض المتشيعة الذين قاموا بتجريف محتوى «العلي» الذي هو أحد «أسماء الله الحسنى» في التصور الإسلامي، لينصرف معناه إلى علي بن أبي طالب، الذي أوتي «ولاية تكوينية» تجعله قادراً على «التصرف في ذرات الكون»، في تأثر واضح بعقيدة «الإنسان/الإله» التي انسربت من الديانات الأسطورية القديمة إلى بعض الديانات السماوية، كما ذُكر آنفاً.
وإذا تجاوزنا هذه المقدمة النظرية لاستعراض بعض الجوانب التطبيقية المعاصرة التي وإن لم تُسقِط بشكل تام الحد الفاصل بين الإله والإنسان، لكنها نسبت الإنسان – فرداً أو جماعة – إلى الله مباشرة، لتحقيق الأهداف ذاتها التي أراد تحقيقها «أنصاف الآلهة» القدماء بانتسابهم المباشر لسلالات الآلهة، كتكتيك يراد من ورائه إقامة فاصل قوي بينهم وبين رعاياهم، كي يظل الرعايا ينظرون إليهم بعين القداسة، وهو ما يحقق لـ»أنصاف الآلهة» المزعومين أهدافاً سياسية في السلطة واقتصادية في الثروة، ما كانوا ليتحصلوا عليها، لولا دعايتهم العقدية القائمة على أساس أنهم من «دماء إلهية» تختلف عن «الدماء الحقيرة» لرعاياهم غير المؤهلين لتولي مهام الملوك المتحدرين من سلالات الآلهة، حيث أسقط الملوك القدماء الحدود الفاصلة بينهم وبين الآلهة الأسطورية، ليقيموا هذه الحدود بينهم وبين رعاياهم، لأهداف نفعية معروفة.
واليوم تنقسم الجماعات والحركات الإسلامية المختلفة فيما يتعلق بنظرتها للعلاقة مع الدين والله إلى قسمين: قسم يتخذ لنفسه تسميات مشتقة من الإسلام وقيمه ورموزه مثل تسميات «الإخوان المسلمون، الجماعة الإسلامية، الجبهة الإسلامية، المقاومة الإسلامية، الجهاد الإسلامي، جند الإسلام، دولة الإسلام، الدولة الإسلامية، وغيرها من تسميات تنتسب للإسلام كدين، إضافة إلى جماعات وحركات تنتسب لقيم أخرى دينية وأخلاقية وحضارية، من مثل: حزب الأمة، حركة النهضة، تجمع الإصلاح، العدالة والتنمية، العدل والإحسان، الحرية والعدالة، حزب الفضيلة، حزب النور، حزب الرشاد وجند الخلافة ، ناهيك عن تسميات مرتبطة بالرموز الإسلامية من مثل جيش محمد، جيش الصحابة، كتائب الفاروق، كتيبة الصديق وغيرها من الجماعات والحركات التي على اختلاف توجهاتها وأساليبها وتصنيفاتها – من حيث التطرف والوسطية – إلا أنها لم تجازف بالانتساب لله مباشرة، توخياً للإبقاء على الحد الفاصل بين الإله والإنسان، وخوفاً من الوقوع في محظورات عقدية لا تتفق ومعتقدات تلك الجماعات والحركات المحسوبة إجمالاً على المذهب السني.
أما القسم الثاني من الجماعات والحركات الإسلامية فهو الذي يضم تلك التي تجاوزت حساسية القسم الأول فيما يخص الانتساب لله، وهي الجماعات والحركات الشيعية التي انتسبت مباشرة إلى الله، في دعوى عريضة لا يستطيع أحد إثباتها، إذ أنه إذا صعب على «الحركات السنية» إثبات صحة انتسابها التام – تنظيراً وتطبيقاً – إلى الإسلام، فإن الانتساب إلى الله يُعد دعوى أكبر لا تستطيع «الحركات الشيعية» إثبات صحتها.
وفي مقابل تسميات الجماعات والحركات «السنية» التي تدور إجمالاً حول الإسلام وقيمة ورموزه تأتي تسميات بعض الجماعات والحركات والمرجعيات الشيعية منسوبة إلى الله مباشرة، في نفي ضمني لمشروعية ما عداها من جماعات وحركات، إذ أنه في الوقت الذي تطلق ميليشيا على نفسها اسم «حزب الله» – مثلاً – فإن ذلك يعني ضمناً أن معارضيها يمكن اعتبارهم من «حزب الشيطان»، لأن هذه الميليشيا احتكرت الآية القرآنية «فإن حزب الله هم الغالبون»، بتحويلها إلى شعار سياسي يستهدف معارضيها، حيث يؤكد مؤيدوها بكل سهولة أن من لم يكن من «حزب الله» فإنه بلا شك من «حزب الشيطان»، دون أن ينقصهم الدليل في الآية «ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون».
هكذا أدى الانتساب المباشر إلى الله إلى انتساب آخر مباشر إلى الشيطان، حسب رؤية الحزب الإلهي، الذي قسم المجتمع رأسياً وأفقياً إلى مجموعة من الثنائيات الضدية: (حزب الله/حزب الشيطان)، و(الغالبون/الخاسرون)، و(الطائفة المنصورة/الأمة الضالة)، ويمكن من خلال تلك الثنائيات المتضادة الاستثمار في تمزيق المجتمع وتقسيمه ضمن تقابلات لا حصر لها، من مثل: (معسكر المقاومة/معسكر الانبطاح)، و(معسكر الإيمان/معسكر النفاق)، و(معسكر الصمود/معسكر المرتزقة)، وقائمة لا تنتهي من المصطلحات والتنميطات والاصطفافات الدينية والطائفية والسياسية والاجتماعية.
وإذا تجاوزنا تسمية «حزب الله» وهي التسمية من القاموس السياسي الإيراني نجد غيرها الكثير من التسميات التي تسمت بها ميليشيات إيرانية ومرجعيات أخرى في المنطقة من مثل «أنصار الله» و»ثأر الله» و»بقية الله» و «ربع الله» و»آية الله» وغيرها من تسميات يصعب أن يثبت أصحابها أنهم بالفعل تطبيق عملي لتلك التسميات القائمة على دعوى عريضة بالانتساب إلى الله.
وكما هو الشأن بالنسبة لميليشيا «حزب الله» في لبنان فإن ميليشيا «أنصار الله» في اليمن حولت آية قرآنية أخرى تشير إلى حواريي المسيح عليه السلام الذين مشوا في الأرض يبشرون برسالة السلام، حولت تلك الميليشيا الآية إلى شعار لها، حيث رسمت على منشوراتها الآية: «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله»، الأمر الذي لا يعني محاولة «تطييف القرآن» وحسب، ولكن تفريغه من محتواه الديني لتعبئته بمحتويات سياسية بعيدة عن رسالته الروحية، ذلك أنه بمجرد أن تكتب آية قرآنية على راية لميليشيا سفكت الدم الحرام ونهبت المال العام فإن الإساءة تتعدى المجتمع إلى مقدساته التي يراد لنصوصها أن تتحول إلى أغطية لعورات تلك الميليشيات الطائفية التي تتدثر بتلك الآيات، ناهيك عن أن تسمية «أنصار الله» عند إطلاقها على جماعة فإن ذلك يعني ضمناً أن الخصوم السياسيين لهذه الجماعة هم «أعداء الله»، وهو ما يكرس التقسيم الطائفي والسياسي والاجتماعي للمجتمعات والدول، باسم الله، وهذا أخطر ما في الأمر.