حتى لحظة كتابة هذه المقالة، تمكن مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة من جمع مليار و160 مليون دولار لصالح خطة الاستجابة الإنسانية لليمن لعام 2023، في مؤتمره الذي عقد في جنيف في 27 فبراير (شباط) الماضي. وهذا الرقم يترك فجوة تمويلية تبلغ ثلاثة مليارات و140 مليون دولار تطالب بها الأمم المتحدة لإغاثة اليمن خلال العام الحالي.
ما يلفت في خطط الاستجابة الإنسانية لإغاثة اليمن خلال السنوات الثماني الماضية هو قفزاتها الماراثونية، حيث تحولت إلى أكبر موازنات الاستجابة الإنسانية على مستوى العالم حتى ساعة تفجر الأزمة الأوكرانية التي تصدرت المشهد الإنساني بلا منازع.
وتتنافس الكارثة الإنسانية اليمنية مع كوارث إنسانية أخرى كلها من صنع الإنسان، مع ظروف صراع مشابهة مثل سوريا والسودان وأفغانستان والكونغو الديمقراطية، وتتقدمها في سقوف التمويل المطلوبة، تحت مبرر تصنيف الأمم المتحدة أخيراً لـ24 مليون يمني في أمس الحاجة إلى شكل من أشكال الإغاثة الإنسانية، مما يشكل 80 في المئة من سكان اليمن.
ليست الحرب في اليمن هي من أسهمت في وضع البلاد في قمة الدول البائسة في العالم، فقد كان اليمن منذ ما قبل اندلاع الحرب دولة فاشلة بالمعايير الدولية، واحتلت المرتبة 154 من أصل 187 دولة في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، وربما أوصلتها حرب السنوات الثماني الأخيرة إلى قعر هذه القائمة بفعل انهيار كل مؤشرات التنمية البشرية فيها.
لقد تميز تاريخ اليمن المعاصر بالصراعات المستمرة، وغياب الاستقرار السياسي، والمركزية الشديدة، والفساد المتجذر في نخبها السياسية ومؤسسات الدولة، وغياب رؤية وطنية للإصلاح، وانتشار الإرهاب وتحويله إلى مادة للابتزاز السياسي للإقليم والتكسب منه، بما في ذلك الإرهاب الحوثي والقاعدي والداعشي.
القفزة الإنسانية
تقييمات منظمات الأمم المتحدة حول الوضع الإنساني في اليمن تغيرت بين ليلة وضحاها فور بدء عمليات التحالف في اليمن في 2015، حيث قفزت متطلبات الاستجابة الإنسانية في العام الأول من مئات الملايين إلى مليار و600 مليون في مراجعات ثلاث شهدها العام نفسه. وسرعان ما بدأت الأمم المتحدة الحديث عن دمار شامل أحدثه القصف الجوي، وموت الآلاف، وظهور بؤر مجاعة تنذر بعواقب وخيمة، فيما يمكن تسميته بابتزاز دولي للتحالف الذي تقوده السعودية، التي لم تسع إلى تدمير اليمن، بل إلى استعادة شرعيته.
وهذه مسألة تحتاج إلى إفراد مقالة مستقلة لها، من زاوية ارتباطها برؤية المملكة لحرب التحالف في اليمن، التي ارتبطت منذ يومها الأول بإنشاء مركز الملك سلمان للإغاثة الإنسانية، ودوره الكبير في إغاثة الشعب اليمني في كل مناطق البلاد، بما فيها تلك الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.
ويقارن المراقبون للعمل الإنساني حجم الموازنات المتزايدة التي طلبتها الأمم المتحدة لليمن ومدى نجاحها في الواقع، فمن مليار و600 مليون دولار في 2015 بعد المراجعة الثالثة، إلى أربعة مليارات و300 مليون في العام الحالي. لقد تجاوز حجم المبالغ التي حصلت عليها الأمم المتحدة لصالح اليمن 20 مليار دولار، وهو رقم في تصاعد مستمر، إلا أنه لم يحقق أية استدامة أو مرونة إنسانية في اليمن، بل تلاشت تلك المليارات وذهبت مذهب الرياح.
كما تشكك المنظمات الإنسانية الوطنية والمراقبون الدوليون في صدقية الأرقام التي تتناولها تقارير الأمم المتحدة حول المشهد الإنساني، ففي الوقت الذي ادعت الأمم المتحدة تقديم مساعدات لـ 4.6 مليون يمني في 2011، قالت إن خطتها للعام الحالي تستهدف 18 مليون نسمة، هذا في الوقت الذي تؤكد التقارير المحايدة انتشار المواد الإغاثية التابعة لبرنامج الغذاء العالمي في أسواق المدن اليمنية ليتربح منها أمراء الحرب، تحديداً في صفوف الميليشيات الحوثية في مختلف الجبهات.
وفي مسألة متصلة، يدفعنا ذلك إلى استعراض المنظمات المعنية بإيصال المساعدات الإغاثية، وعلاقتها بأطراف النزاع، حيث أصرت الأمم المتحدة منذ اليوم الأول للحرب على العمل مركزياً من العاصمة اليمنية المغتصبة من قبل الميليشيات، وتعمل اليوم بشكل مركزي عبر أكثر من 151 منظمة بين دولية ودولية غير حكومية، ومحلية غير حكومية، وهذه الأخيرة هي من تقوم بتنفيذ العقود لصالح الأمم المتحدة على الأرض.
وقد انتشر عديد من التقارير خلال السنوات الماضية حول علاقة الميليشيات الحوثية وأمراء الحرب بسرقة المساعدات الإنسانية عبر الترهيب والتواطؤ مع المتعاقدين المحليين. لقد قفز رقم المنظمات غير الحكومية المحلية المنفذة لخطة الاستجابة الإنسانية من 24 منظمة في عام 2011 إلى ما يتجاوز 100 منظمة محلية اليوم، ولا وجود لتقييم محايد لنجاعة أدائها، إلا ما تقوله مكاتب الأمم المتحدة.
عش الدبابير الإنساني
بعد أسبوع من تكليفي لتولي حقيبة الخارجية في حكومة الرئيس هادي، كنت في صالة الاستقبال بأحد المطارات الخليجية، للقاء مارك لوكوك، الذي كان يشغل حينها منصب وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية. وخلال اللقاء عبر لوكوك عن قلقه من تصريحات كنت أطلقتها حول موارد خطة الاستجابة الإنسانية وكيفية صرفها وصولاً إلى المستهدفين الحقيقيين، وقلت وما زلت أوكد ما قلته حينها، إن ما بين 40 - 45 سنتاً من كل دولار تصرفه الأمم المتحدة في اليمن وفي أي مكان آخر، يذهب لصالح مصروفات إدارية في كل المستويات الدولية وصولاً إلى المتعاقدين المحليين. في ذلك اللقاء كان لوكوك يريد إقناعي بأن مثل هذه التصريحات لا تخدم الشعب اليمني الذي هو في أمس الحاجة إلى المساعدات الدولية.
كذلك كانت الحال في مركزية قرار الأمم المتحدة فقد كانت المفاوضات مع مكتب الشؤون الإنسانية زمن البارونة فاليري آيموس، قد تركز حول ضرورة اعتماد الأمم المتحدة لا مركزية العمل الإنساني من خلال إنشاء خمسة مراكز محورية في اليمن، وعلى رغم تبني البارونة آيموس للفكرة، جاء خلفها استيفن أوبراين ليرمي عرض الحائط بالفكرة، بل إن الأمم المتحدة اعتمدت بعدها نظام الممثل المقيم الذي صار يمثل الأمم المتحدة انطلاقاً من صنعاء. ولم تقبل مكاتب الأمم المتحدة والممثل المقيم على وجه التحديد، العمل ضمن المنظومة المالية للحكومة اليمنية، على رغم كل المحاولات معها، وفضلت اعتماد آلياتها الخاصة.
وكلما حاولت الحكومة اليمنية مراجعة آليات عمل الأمم المتحدة في الداخل اليمني، كانت ردات الفعل في نيويورك قوية، وتلمح إلى تصعيد عبر الشركاء للضغط على الحكومة اليمنية باعتبارها معيقة للجهود الإنسانية. ومن هنا جاء مصطلح "عشر الدبابير الإنساني" في وصف مكتب الشؤون الإنسانية، لأنه لا يقبل النقد، على رغم المؤشرات المتزايدة حول عدم فاعلية الآليات المتبعة في العمل الإنساني داخل اليمن، لأنها لا تركز على الاستدامة والمرونة الإنسانية لبرامجها. فلا يكفي الإنسان أن تعطيه حصة غذائية ليعود كل ثلاثة أشهر للحصول على حصة أخرى، فهذا لا يحل مشكلاته المستعصية.
العام التاسع إنسانياً
مع دخول خطة الاستجابة الإنسانية عامها التاسع يبقى التحدي ليس في مواصلة تجريب المجرب في العمل الإنساني، على رغم إخفاقاته المتواصلة، فقد حضرت الأمم المتحدة في اليمن خلال السنوات الـ50 الماضية، وأهدرت المليارات التي لم تحقق استدامة من أي نوع، بل إنها في مناسبات كثيرة كانت تغذي فساد الدولة والنخب، واستمرت خلال السنوات الثماني الماضية تدعم المشروع الانقلابي الحوثي، من خلال دعمها لطباعة الكتاب المدرسي ذي النزعة الطائفية، وتخصيص ملايين لصالح صندوق الرعاية الاجتماعية وبرامج نزع الألغام الحوثية، وغيرها كثير التي صبت في جيوب أمراء الحرب، وأسهمت في استدامة النزاع.
إن التحدي الأكبر للكارثة الإنسانية يتمثل في إنهاء الحرب وعودة السلام، فقد زادت الحرب من تعقيدات التحديات الهيكلية العميقة لاقتصاد دولة فاشلة بكل المعايير، وعمّقت الفساد الإداري والمالي، وأسهمت في انهيار قطاعات حيوية في خدمة المجتمع، مثل الصحة والأمن الغذائي والتعليم والخدمات الأساسية.
وحينما يعود السلام سيكون لدى اليمنيين فرصة مراجعة العبث الإنساني الذي أهدر مليارات من دون نتائج، وإجراء تقييم علمي لواقع اليمن قبل الحرب وخلال سنوات الحرب الثماني، آخذين في الاعتبار حاجة اليمن إلى التركيز على مشاريع الاستدامة والمرونة الإنسانية.
عن "اندبندنت عربية"