مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

الإمامة والتهجير.. تاريخ من الإرهاب

2023/06/06 الساعة 12:45 مساءً

ارتبطت الإمامة في اليمن بالعنف الديني والإرهاب منذ أول يوم لتوردها إلى اليمن، مطلع القرن الهجري الثالث، ولا يزال العنف والإرهاب بشتى صوره وأشكاله سِمَة رئيسية لها منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم. 
ونستعرض هنا نمطا واحدا من أنماط العنف والإرهاب الإمامي، متمثلا في التهجير القسري لليمنيين حيثما استطاعت هذه الجماعة فرض قوتها. 
1ــ الإمامة وتهجير الإسماعيلية 
 كانت الإسماعيلية أولى الفِرق التي تعرضت للإبادة الجماعية على يد الهادوية الإرهابية من وقت مبكر، منذ يحيى الرسي، فأبنائه من بعده، ثم بقية الأئمة المتعاقبين على الحكم. وكانت منافسًا سياسيا يتخلق، بشعبية زاحفة، بحكم المكانة السياسية والروحية التي تبوأها كلٌ من ابن حوشب وعلي بن الفضل قبل أن يعلنا دعوتهما، ابن حوشب من "عدن لاعة" وعلي بن الفضل من "سرو يافع"، وقيل في مخلاف جيشان، وفق تكتيك مسبق اتفقا عليه في ساحل "غلافقة" من تهامة عقب عودتهما معًا من العراق.  فشنوا عليها الدعايات السوداء أولا، ثم لاحقوا عناصرها، وأبادوهم حيث وجدوهم. وكان من خرج على ظلم الإمامة أو علا صوته أسقطوا عليه تهمة الإسماعيلية بعد أن أسقطوا عليه كل قُبح وشين، إلى حد أن انطلت على عقول الكثير تلك الإشاعات، ومنها قصيدة "خذي الدف يا هذه واضربي" التي نسبوها زورا وبهتانا لعلي بن الفضل. وقد تمزق شمل هذه الجماعة في مختلف الأصقاع بعد إبادات جماعية وتهجيرات شاملة لهم. 
وحين بدأت شوكتهم تقوى من جديد في عهد الإمام المهدي محمد بن المهدي أحمد، الملقب بصاحب المواهب 1097 ــ 1130هـ، حاربهم، ونفى من تبقى منهم على قيد الحياة من همدان إلى الهند والصين عام 1101هـ، الموافق 1689م،  ولم يستطيعوا العودة إلى ديارهم بعد ذلك، وبقوا هناك إلى اليوم؛ لهذا لا تزال الطائفة "البهرية" في الهند متعلقة روحيا باليمن إلى اليوم، كون أغلب رموزها في "مومباي" تحديدا من أصول يمنية. 

2ــ الإمامة وتهجير المطرفية 
المطرفية جماعة علمية فلسفية تشكلت في القرن السادس الهجري، فعكفت على العلم، وعلى إحياء قيم العقل والتخلص من الخرافات التي كانت تمتلئ بها بعض المراجع الدينية ولا تزال. وناقشوا ما يزيد عن مئة وعشرين مسألة علمية لأول مرة، أقرها العلم الحديث بعد ذلك. وقد تخلوا عن خرافة العرق النقي والسلالة الأفضل، وقالوا بجواز الإمامة في أي فرد توفرت فيه شروط الإمامة المعتبرة عقلا، قحطانيا كان أم عدنانيا، وليس منها شرط البطنين، فثارت ثائرة الهادوية الإرهابية، واعتبروهم خطرا يهدد كيانهم ومستقبلهم. وزادت حساسية الهادوية الكهنوتية تجاه المطرفية من كون المطرفية قد نشأت في نفس البيئة التي تعتبرها الهادوية حاضنتها الأم وحاميتها الرئيسية. وهو تهديد من الداخل له تأثيره الكبير لاحقا، فتعاملت معها بحدية مفرطة، وقمعتها قمعا متوحشا، مبالغا فيه، على الرغم من كون المطرفية جماعة علمية بالمقام الأول كما أسلفنا، إلا أنها مع هذا ظلت "فوبيا" قائمة تقض مضاجع الهادوية ليل نهار وظلت شغلهم الشاغل حتى بعد تلاشيها، كما ظلت من قبلها الإسماعيليّة كذلك.
وللعلم فقد تزامنَ نشوء هَذِه الفرقةِ وتبازغتْ ملامُحها قُبيل نشوءِ حركات التَّحرر الأوروبي ومدارسِ النقدِ والفكرِ هناك. وكان من الممكنِ أنْ تشكلَ هَذِه الجَمَاعَةُ "المطرفيَّة" حركة إحياءٍ قومي للمنطقة، لو لاقت من الاهتمامِ والرعاية نصفَ ما لاقته من المحاربةِ والتنكيل؛ وربما قدمت نَظَريَّةً فكريةً وسِياسيَّة وفلسفيَّة متكاملةً في الحُكم والاقتصادِ والمعرفة؛ وكانتْ قمينةً بحقنِ دماءِ اليمنيين وحفظِ أموالهم التي أُهدرتْ على ذمةِ الصِّراعاتِ السِّيَاسِيَّةِ
وقد عمدت الإمامة حينها إلى تكفير الجماعة أولا كما هي عادتهم، وإخراجهم من الملة، ثم تهجيرهم ونفيهم، وذلك لما يترتب على التفكير من استباحة للأنفس والأموال والأعراض، وفقًا لأدبيات الفقه الهادوي الكهنوتي، فألف أحمد بن سليمان فيهم كتابين، هما: الرسالة الهاشمة لأنف الضلال من مَذهَب المطرفيَّة الجهال. وأيضا: الرسَالةَ الواضحةَ الصَّادقة في تبيين ارتداد الفرقة المارقة المطرفيَّة الطبعيَّة الزنادقَة. وينسب له قوله: لو اسْتمرت المطرفيَّةُ لن تقومَ قائمةٌ لدولةِ آل البيت.
وكذلك فعل السفاح عبدالله بن حمزة، الملقب بالمنصور؛ إذ كفّرَ المطرفيَّة في واحدةٍ من رسَائله إلى عامَّةِ الناسِ، قُرئتْ في المجامع والأسْواق.  وقَدْ ترتب على تكفير المطرفيَّة ملاحقةُ أتباع المنصور لهم، حتى لم يعد بوسعهم الدخول إلى الأسْواق العَامَّة إلا بذمة أو جوار من غيرهم!  بل لقد تمتْ مُصَادرة أموال أهْل هجرة "قاعة" لهذا السبب، كما تم هدم مسجد المطرفيَّة في سناع ووقش، وتخريب بيوتها، وطرد أهلها، وقَدْ قَال بعد أن تمكن من القضاء عليهم: "أريد أن أجْعلها سُنَّة باقيَة يعملُ بها من قَام ودعَا من أهْل البيت فيما بعد" 
وقد اعتبر بلادهم بلاد كفر "وكل دار أظهر فيها إنسان كلمة من الكفر، أو كلاما لا يفتقر في إظهاره إلى ذمة ولا جوار من أحد من المسلمين فهي دار كفر.. فكل جهاتهم دار حرب، يحل فيها قتل مقاتليهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وغزوهم كما تُغزى ديار الحرب ليلا أو نهارا، وأخذهم سرا وجهارا، والقعود لهم كل مرصد، وقد أبحناهم لمن اعتقد إمامتنا من المسلمين، غيلة ومجاهرة، وغيبًا وظاهرة، ومن جاءنا بأحدٍ من ذراريهم اشتريناه بثمن مثله، وأجزنا أخذه بما يرضاه، كما يفعلُ أئمة المسلمين بمن غزا ديار المشركين، ويُجهز على جريحهم، ويقتل مدبر ومقبلهم، ويُمثل بقتلاهم..". 
كما قَال أيضا في رسَالَةٍ مطولة، وجهها إلى أهل اليَمَنِ عن المطرفية، محرضًا القَبَائلَ عليهم: "فحاكمناهم إلى الله تعالى، فقضى لنا عليهم، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية..". 
مضيفًا: "وقد أفتيناكم بما أفتى به إمامُنا ــ عَليْه السَّلام ــ من تحريم أمانهم، والذمة عليهم، وتسْليم شيءٍ من الواجباتِ إليهم، وأبَحْنا قتلَهم وسلبَهم ودمَهم، ذلك حكمُ الله سُبحانه فيهم، وفيمن كان منهم" ، وفي سيرته في سياق الكلام عن المطرفية: "وشرط فيه إباحة دمائهم، وتُغنم أموالهم..".  وقوله: "فيمن كان منهم" يشمل نساءهم وأطفالهم وشيوخهم وعبيدهم ومواليهم..
وأبشعُ من هَذا وذاك ـ أيضًا ـ أنه قَام بملاحقة أحَد مَشائخ المطرفيَّة العُميان في قرية "حصن بكر" بحَجة، رغم شَفاعة الكثير من أهل تلك المنطقة له، إلا أنه أصَرَّ على إحْضاره إليه وضَرب عُنقه ودفنه في مَكانه، وجعل عليه الحجارة. !
والأكثر بشاعة حين سبى من نِساء صَنعاء ستمئة امرأة، واقتسمهن أخوه وقائد جُيوشه يحيى بن حمزة مع قادة جيشِه ومقربيه في قاع طيْسان!! 
وقد تم القضاء على المطرفية قتلا وسجنا وتهجيرا، وسحقت كما لم تُسحق جماعة عبر التاريخ. 

4ــ الإمامة وتهجير اليهود
الطائفة اليهودية مكونٌ كبيرٌ وأصيلٌ من المكونات الاجتماعية والدينية في اليمن من قبل أن تعرف الهادوية الإمامية أرض اليمن، ومن قبل الإسلام كذلك. عاشوا مع إخوانهم المسلمين بروح الإخاء والمحبة والتسامح قرونا من الزمن حتى جاءت الهادوية الإرهابية ودخلت معهم في حروب، كما دخلت في حروب مع بقية الجماعات والفرق الأخرى. ومما يُحمد لليهود قديما وحديثا تمسكهم بهويتهم اليمنية، واعتزازهم باليمن وبحضارته وتاريخه كأي يمني، بصرف النظر عن عقديته، فيما الهادوية الإمامية تزردي اليمنَ حضارة وتاريخا ومجدًا سامقًا، ضاربًا بجذوره في أعماق التاريخ. 
وقد ظلت الإمامة على الدوام ــ وخاصة الإمامة القاسمية ــ ترفع عقيرتها ضد ما تسميه مفاسد اليهود، وبين الفينة والأخرى تشردهم وتهجرهم وتنكل بهم شرد تنكيل، تارة بإجلائهم عن مدينة صنعاء، وتارة بمصادرة أموالهم وجميع أملاكهم للإمام وحاشيته، بتهم باطلة في غالبها. علما بأن اليهود قد أسهموا من وقت مبكر إسهاما إيجابيا وخلاقا في الفنون الشعبية وفي التجارة والصياغة والصرافة وفي مختلف الجوانب، فكان لهم إسهام مدني وحضاري بديع، باعتبارهم أهل صنعة وأهل سلم وتمدن، ومع هذا فقد ظلوا هدفا للإمامة بين الحين والحين ينكلون بهم ويشردونهم ويصادرون أموالهم. ناهيك عن المعاملة المزرية بحقهم في الظروف الطبيعية. ففي العام 1175هـ قام الإمام المهدي عباس باعتقال زعماء اليهود في صنعاء، وعذبهم وسَجَنهم، ومنعهم من لبس العمائم، وألزمهم بدفع نصفِ محصولاتهم، ثم صَادر أموالهم كاملة بعد ذلك، وأبطلَ عقد الذمة المبرم بينهم وبين الأئمة سَابقا، وحكم عليهم بالعُبودية بعد أن كانوا "ذميين/ مستأمنين". وقَدْ وجَّه بتهجيرهم وهو في مرض الموت قبل وفاته. وكذلك فعل المهدي عبدالله، فهجرهم من صنعاء إلى منطقة موزع قريبا من المخا. 
ورغم أن اليهود بدرجة رئيسية، ثم البانيان الهنود كانوا يمثلون دعامة اقتصادية كبيرة للبلاد، وإضافة نوعية على صعيد المهن والحرف، إلا أن الإمامة الهادوية لم تأبه لذلك، فقد هجرتهم وشردتهم، ومع هذا الفعل تهاوت أسواق اقتصادية وغادر الكثير سوق العمل، مُلتحقين بالعُكفة، وقد كانوا عمالا أو فنيين لدى اليهود أو البانيان، باعتبار هؤلاء أرباب مهن، وحِرفٍ متميزة أيضا، في مختلف مدن اليمن. وهو ما لا يهم الإمامة أصلا، فهي لا تكترث للوطن ولا للمواطنين، بقدر ما تكترث لبقائها هي فقط على أي نحو كان. 

الإمامة والتهجير في القرن العشرين 
تبدأ معاناة المهاجر عن وطنه من لحظات الفراق الأولى لأهله وداره، ومعلوم مدى تشبث النفس بالأرض ومراتع الصبا، تليها معاناة الطريق، وخاصة في الزمن القديم حين كانت الهجرة أو الغربة تمثل انقطاعا كليا أو شبه كلي عن الأهل والدار، قبل ظهور وسائل الاتصال والمواصلات، وحين كانت الطريق مملوءة بالمخاطر المتنوعة، سواء طريق البر أم طريق البحر، كان بعضُ المسافرين يتعرض لافتراس الوحوش حينا، ولقطاع الطرق حينا آخر، لذا عادة ما يسيرون جماعات، غير منفردين، ومن نجا من هذا الخطر بدأ بالتفكير في خطر البحر، حين كانت المراكب تغرق فيه بما عليها، وتلقي بالغرقى إلى الشواطئ جثثا هامدة، وربما تعرضوا لخطر القرصنة أيضا، أضف إلى ذلك أن بعض الفارين من بطش الإمام كانوا يتسللون إلى بعض السفن سرا، أو يحشرون أنفسهم في البضائع والحمولات دون أن يعرف قباطنة هذه السفن، ويبقى طوال الرحلة قيد وساوسه وتكهناته وآلامه النفسية. 
وفي بلد المهجر تمثل اللغة المختلفة وأيضا الثقافة أحد أوجه المعاناة، ناهيك عن عصابات الليل ولصوص المدن الذين يتربصون بالغرباء والمنقطعين. أضف إلى ذلك الشروط القاسية والتعامل الفظ الذي يتعامل به رجال الأعمال، مستغلين الظروف الإنسانية لهؤلاء المهاجرين والمغتربين، في زمن لم تكن قد سنت القوانين أو اللوائح التي تنظم شؤون الهجرة والاغتراب، واستغلال المغترب حالة مستمرة يعاني منها اليمنيون إلى اليوم، مع وجود سفارات وقنصليات ومنظمات حقوقية تساعده على استرداد بعض حقوقه، أما في السابق فلم يكن للمهاجر لا سفارة أو قنصلية يلجأ إليها، ولم يكن له حتى جواز سفر يثبت هويته، فكانت رحلة مجهولة إلى عالم مجهول من شخص مجهول؛ لهذا انقطعت أخبار بعض من هؤلاء المهاجرين، وأصبحوا أثرا بعد عين، وقد لقوا حتفهم في ظروف غامضة؛ إما غرقا بين لجج البحار، أو تائهين في قيظ الصحارى، وبعضهم استضافته سجون بلاد المهجر حتى لقي حتفه فيها وحيدا غريبا، لا يفهم من بجانبه، ولا يفهمه في ظروف إنسانية بئيسة، ولا يجد من يدافع عنه. 
ثمة معاناة نفسية أخرى حين وجدوا أنفسهم غير مؤهلين علميا، ولا يحملون أية شهادات علمية في أي مجال من بلادهم التي هاجروا منها، خاصة المهاجرين إلى الهند والصين ودول شرق آسيا، في الوقت الذي يملك غيرهم المؤهلات الدراسية والشهادات العلمية، فكانت عمالتهم تقليدية في المجالات الخدمية، كالزراعة والحدادة والنقل والبناء والمناجم والسفن وغيرها.. 
ولعل المأساة الكبرى التي طالت اليمنيين في الحبشة هي عملية التجنيد القسري والإجباري التي طالتهم لدعم المجهود الحربي للقوات الإيطالية؛ الأمر الذي أدى بالتالي إلى هروب مجاميع كبيرة منهم عن طريق البر إلى الأقاليم الشرقية من السودان، وإن كانت عملية الهروب الجماعي هذه قد خلقت لهم فيما بعد مشاكل كثيرة؛ حيث استغل الإنجليز بعض هؤلاء، كما سجنوا البعض الآخر منهم، ممن ثبت للسلطات البريطانية بأنهم قد حاربوا فعلا إلى جانب الإيطاليين. 
وهذا لا يعني أنهم توقفوا عند حدود خبراتهم المحدودة التي أتوا بها؛ بل لقد طوروا كثيرا منهم من خبراتهم ومعارفهم، وبعضهم التحق بالتعليم هناك، وحذق أكثر من لغة، كما حذق أكثر من مهنة، حتى أصبحوا بعد ذلك تجارا كبارا ورجال أعمال ومثقفين وساسة. 
 ومع كل هذه العذابات والمخاطر والظروف القاسية التي تلف اليمني من كل اتجاه إلا أنها جميعا أرحم من طغيان الإمام وجلاوزته الذين يتلذذون بإهانة المواطن وتعذيبه، مرددين أمامهم على الدوام: "ما للقبيلي إلا الإهانة"،  فكانت نار الخارج أخف وطأة عليهم من جحيم الداخل، الأمر الذي جعل بعضهم يستوطن البلاد التي هاجر إليها، ولم يعد إلى بلده، مواسيا أهله وأقاربه بما تيسر من المال الذي يعينهم على مواجهة شظف العيش، كما هو الشأن اليوم؛ إذ يمثل المغتربون دعامة اقتصادية كبيرة للوطن، ولولا هذه الدعامة لكان حال البلاد أكثر سوءا مما هي عليه. وكان من عاد من المغتربين إلى الوطن آنذاك يتعامل معه عمال الإمام وجنوده كفريسة لهم، فيضطر للعودة إلى الهجرة مرة أخرى؛ علما أن بعضا من هؤلاء المهاجرين "المغتربين" الذين توافدوا على منطقة شرق افريقيا أو الهند أو دول شرق آسيا قد واصلوا هجراتهم غربا إلى بريطانيا أو فرنسا، وبعضهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بحثا عن فرص عمل أفضل. ومن هؤلاء المناضل الشاعر صالح سحلول، رحمه الله.  
والواقع أن سياسة التحقير والسخرية هي مما توارثه الأئمة خلفا عن سلف، منذ يحيى حسين الرسي وإلى اليوم، وفي هذه اللمحات الشعرية للشاعر "القارة" صورة عن تلك الرؤية التي يعتقدونها في عامة الناس في قصيدة من الشعر الشعبي: 
القبيـْــلي عــــدو نفســــه      صدق قد قالها المجرب
كم يطيش في الضلال حسه     حين تشرق وحين تغرب
حق برميل يسد نخسه   ويدْرَه وهو مسنب
وبشامق تدوس ظهره    وفرق كل يوم فرقة
وزناجير تفك صدره   كل حلقة تلز حلقة
وحزام أكل تكد "جــ.."   كل ضربة تشل نتفة
ما عليك في الجعيل ملامة    لك ثواب تبعد الشناعة
لا ترج له السلامة     لا ولا تطلب له الشفاعة
 وفي هذه الصور الشعرية للشاعر محمد أنعم غالب مشاهد تقريبية عن تلك المآسي المؤلمة والدامية: 
وذات يوم نبذته باخرة
في مرفأ يغرقه الزحام
وليس فيه موضع لعامل جديد
العاطلون بالمئات
يقضون يومهم ممددين
في العراء يعصرون النسمات
بأجنحة
مصنوعة من سعف النخيل
وكل شيء فيه نار
الجو نار والغلاء نار
حتى كؤوس الماء تباع بالنقود
وعاش مثل ساحر عجيب
يبيع آمالاً ليائسين
يخطّ في الترب السطور
ويكشف المحجب المستور
ويخلط الكلام
ببضع تمتمات
وآية الكرسي، والنجاة
ويكتب التمائم المطلسمات
لعاشق مفارق، وغائب يعود.
نعم.. واجهوا كل هذه الأخطار، ومع ذلك ــ وبحسب مطهر الإرياني ــ: قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.
ولعل قصيدة "البالة" لمطهر الإرياني التي غنها الفنان السمة أبلغ صورة شعرية عن تلك المعاناة التي كان يعانيها اليمني في بلد المهجر، بعد أن تم تهجيره بسبب ظلم عساكر الإمام، وفيها: 
والليلة البال ما للنسمة السَّارية     هبَّتْ من الشَّرق فيها نفحةُ الكاذية
فيها شذى البن فيها الهمسة الحالية     عن ذكريات الصِّبا في أرضنا الغالية
والليلة العيد وانا من بلادي بعيد      ما في فؤادي للطوفان الأسى من مزيد
قلبي بوادي بنا، وأبين، ووادي زبيد    هايم وجسمي أسير الغربة القاسية
خرجت أنا من بلادي في زمان الفنا       أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا
وماتوا أهلي ومن حظ النكد عشت أنا    عشت أزرع الأرض واحصد روحي الذاوية
ذكرت أخي كان تاجر أينما جا فرش     جوا عسكر الجن شلوا ما معه من بقش
بكر غبش، أين رايح؟ قَال أرض الحبش        وسار واليوم قالوا: حالته ناهيه.
بكرت مثله مسافر والظفر في البكر        وكان زادي مع اللقمة ريالين حجر
وأبحرت في ساعية تحمل جلود البقر        والبن للتاجر المحظوظ والطاغية
بحثت عن شغل في الدكة وداخل عصب   وفي الطرق والمباني ما وجدت الطلب
شكيت لاخواني البلوى وطول التعب       فقالوا: البحر . قلت البحر وا ساعية
وعشت في البحر عامل خمسة عشر سنة     في مركب "اجريكي" أعور حازق الكبتنة
وسوَّد الفحم جلدي مثلما المدخنة         وطُفت كم يا بُلوِّد أرضها قاصيه
مثل الطيور القواطع طفت كل الجزر        غويت لي ما غويت لما كرهت السفر
واخترت "بر الدناكل" مُتَّجِر بالحِصر   من حي لا حي يا مركب بلا سَارية
غريب في الشاطئ الغربي بجسمه نزل     والروح في الشاطئ الشرقي وقلبه رحل
يا ليت والبحر الأحمر ضاق ولا وصل      جسور تمتد عبر الضفة الثانية
من كان مثلي غريب الدار ماله مقر        فما عليه إن بكى وأبكى الحجر والشجر
أبكي لك أبكي، وصب الدمع مثل المطر     ومن دم القلب خلي دمعتك جاريه
غنيت في غربتي: يا لله لا هنتنا         ومزق الشوق روحي في لهيب الضنا
راجع أنا يا بلادي يا ديار الهنا                 يا جنتي يا ملاذي يا أمي الغالية
هذه أبلغ صورة من الشتات وعذابات الاغتراب لليمني الذي أضنتْه الإِمَامَةُ جورًا وقتلا وتشريدًا، وهو نجل سبأ وحِمْيَر، وفي أرضه من الخيرات الكثير لو سَلمتْ ـ فقط ـ من نهْب واسْتحواذ جَلاوزة الإِمَامَةِ التي أكَلت الأخضرَ واليابسَ وجَعلت مِن المُواطن مجردَ عاملٍ لها على مر العَام فقط. 
والقصيدةُ الأخرى ـ أيضا ـ للشاعر عبدالله البردوني، وليست بعيدة عن سابقتها، بل مجسدة تلك الحالة المزرية بصورة أجلى وأوضح. والقصيدتان كلتاهما تتذكران المآسي، وكلتاهما تتغنيان بالوطن، وكلتاهما تنتهيان بأملٍ مغدور. كما أن كلتيهما أشَارتا لفترة الإمَام يحيى، والحقيقة لكل فترات الأئمَّةِ سابقا ولاحقا.. وعنوان الأخيرة: "غريبان وكانا هما البلد".
من ذلك الوجه؟ يبدو أنه "جَنَدي"     لا.. بل "يريمي" سأدعو ، جدّ مبتعد
أظنّه "مكرد القاضي"  كقامته     لا .. بل "مثنى الرداعي" "مرشد الصّيدي"
لعلّه "دبعيٌ" أصل والده                        من "يافع" أمُّه من سورة المسد
عرفته يمينا في تلفّته     خوف                وعيناه تاريخ من الرمد
من خضرة القات في عينيه أسئلة     صفر تبوح كعود نصف متّقد
رأيت نخل "المكلا" في ملامحه     شمّيت عنب "الحشا" في جيده الغيد
من أين يا بني؟ ولا يرنو، وأسأله     أدن قليلا.. صَباح الخير يا ولدي
ضَمّيْتُه مِلءَ صَدري. إنَّه وطني     يبقى اشْتياقي وذوبي الآن يا كبدي
***
يسعد صَباحك يا عمّي. أتعرفني؟      فيك اعتنقت أنا، قبّلت منك يدي
لاقيت فيك "بكيلا" "حاشدا" "عَدَنًا"     ما كنت أحلم أن ألقى هنا بلدي
رأيت فيك بلادي كلّها اجتمعت              كيف التقى التسعة المليون في جسد؟
***
عرفتُ من أنت يا عمّي، تلال "بنا"     "عيبان" أثقله غاب من البرد
"شمسان" تنسى الثريّا فوق لحيته     فاها وينسى ضحى رجليه في الزبد
"بينون" عريان يمشي ما عليه سوى        قميصه المرمريّ البارد الأبدي
صخر من السدّ يجتاز المحيط إلى     ثانٍ ينادي صداه: من رأى عُمُدي؟
***
ما اسم ابن أمي؟ "سعيد" في "تبوك" وفي     "سيلان" "يحيى" وفي "غانا" "أبو سند"
***
وأنت يا عمّ؟ في "نيجيريا" "حسن"     وفي "الملاوي" دعوني "ناصر العندي"
***
سافرت في سنة "الرامي" هربت على        عمّي غداه قبرنا "ناجي الأسدي"
من بعد عامين من أخبار قتل أبي        خلف "اللُّحيّة" في جيش بلا عُدد
أيام صاحوا: قوى "الإدريسي" احتشدت     وقابلوها: بجيش غير محتشد
***
رحلت في ذلك التَّارِيْخ أذكره       كأنها ساعة يا "سعد" لم تزد
صباح قالوا: "سعود" قبل خطبتها     حبلى. و"حيكان" لم يحبل ولم يلد
و"الدودحيّة" تهمي في مراتعنا     أغاني العار والأشواق والحسد
ودّعتُ أغنامي العشرين "محصنة"     حتى أعود، وحتى اليَوم لم أعد
***
من مات يا ابني؟ من الباقي؟ أتسألني!     فصول مأساتنا الطولى بلا عدد
ماذا جرى في السنين الست من سفري؟     أخشى وقوع الذي ما دار في خلدي
مارست يا عمّ حرب السبع متقدا              تقودني فطنة أغنى من الوتد
كانت بلا أرجل تمشي بلا نظر            كان القتال بلا داعٍ سوى المدد
***
وكيف كنتم تنوحون الرجال؟ بلا     نوح.  نموت كما نحيا، بلا رشد
فوجٌ يموت وننساه بأربعة        فلم يعد أحد يبكي على أحد
وفوق ذلك ألقى ألف مرتزق        في اليَوم يسألني: ما لون معتقدي؟
بلا اعتقاد، وهم مثلي بلا هدف     يا عم ما أرخص الإنسان في بلدي!
والآن يا ابني؟  جواب لا حدود له.      اليَوم أُدجي لكي يخضرَّ وجه غدي
وللشاعر محمد غالب أنعم ــ وهو من أبناء الحجرية ــ ديوان شعر اسمه "غريب على الطريق" يؤرخ لمآسي تلك الفترة، وحال اليمني في بلدان الشتات، حين كانت الغربة والهجرة انقطاعا كليا عن الأهل والدار قبل تيسر الهاتف والبريد إلا في حده الأدنى. يقول في واحدة من قصائده عن ذلك اليمني البئيس المشرد: 
كل الموانئ تعرفه
كل البلاد جابها
كل البحار خاضها
بأي اسم/ أبوه سماه “علي”
وحين صار في عداد الوارثين
أثبت اسمه “علي”
في دفتر الزكاة
طارده الجُباة
وباع نصف ثروته
ليدفع الزكاة
وأجرة التقدير والجباة والجنود
ورشوة الحاكم والأمير..
وغادر الوطن
حكوا له أن البحار في البعيد تقذف اللآل
وأن عالماً يمتدّ خلف دولة الإمام
أنهاره شطوطها ذهب
جباله الماس
عالم عجيب
يصنع الثياب والساعات
والخيوط والإبر
والطائرات
تلك التي تمر في السحاب
وفيه ينطق الحديد
ما ضره، لو غادر الوطن
وآخرون غادروه قبله
وهذه أخبارهم تعود
وطيّها نقود
وقطع الكساء.
وبلسان ذلك اليمني المشرد البئيس في المهجر، سواء في الحبشة أم غيرها، يقول:
إني أخاف أن أموت في البعيد
وفوق قبري ينقشون أي اسم
إلا.. "علي"
عمرتُ كل أرض
وموطني خراب
لكم أتوق أن أعود أعمر الوطن
لكم أتوق أن أدق فوق صخره بفأس
لكم أتوق أن أشم ريحة الحقول
لكم أتوق أن أرى عيد الحصاد
وأن أعيد الأغنيات
في موسم البذور والحصاد
لكم أتوق أن أنادى: "يا.. علي"
تم تهجير قرى بكاملها، فأقفرت وصارت بلقعًا تعوي فيها الذئابُ بعد أن كانت عامرة بالحياة، بمزارها وثروتها الحيوانية، وبأهلها ومساجدها القائمة في كثير من مناطق الحجرية، ومناطق اليمن عموما. 
 وتفصح لنا بعض القصائد الشعرية التي نظمها بعض الشعراء عن جزء من تراجيديا تلك المرحلة، كقصيدة الدكتور/ الدكاترة سعيد الشيباني " يا نجم يا سامر" التي غنها الفنان المرشدي والفنان السوري فهد بلان، وفيها: 
هجرتني والقلب غيـــر سالــي   كل السبب عساكـــر الحلالـــي
بكّــــــر من التربة غبش يلالي    بيده سبيل بجيبه أمــــر عالي 
إلى جانب هذه القصائد الشعرية التي ذكرنها، وأهمها قصيدتي البردوني ومطهر الإرياني، أيضا ثمة الجانب الروائي الذي أبدع فيه أحد المهاجرين الأدباء، وهو محمد أحمد عبدالولي العبسي، وكان من أبٍ يمني، وأم حبشية، عانى كثيرًا بسبب هذا الازدواج العرقي وتبعاته النفسية الذي لاقاه منذ طفولته، فكتب روايته الشهيرة "يموتون غُرباء". وفيها من الحنين للأرض والموطن الأصل ما تسيل معه العبرات، خاصة وهو يتناول عذابات الأطفال الذين ولدوا في أرض المهجر، بمن فيهم الأطفال المولودين بطريقة غير شرعية، والذين طالتهم المعاناة لغير ذنب ارتكبوه، أو جناية أتوها. 

الحوثيون والتهجير

1ــ الحوثيون وتهجير يهود آل سالم
"هجّر الحوثيون خلال مسيرتهم في اليمن بعض الفئات المجتمعية، بدوافع طائفية ودينية وعرقية أيضا، كان أبرزها تهجير اليهود، وهم سكان أصليون عاشوا في مناطق مختلفة في اليمن. ففي أواخر العام 2006م أقدمت جماعة الحوثي على تهجير سبع أسر من يهود آل سالم من منازلهم في منطقتي "الحيد" و "غرير" بمديرية كتاف بمحافظة صعدة، بعد تهديدهم بالقتل؛ حيث أشعرهم الحوثيون خطيًا بمغادرة قريتهم خلال عشرة أيام، وإن وجدوا واحدًا منهم في المنطقة بعد انقضاء هذه المدة فإنهم سيندمون جميعًا. 
أجبر الحوثيون يهودَ اليمن على ترك منازلهم ومزارعهم التي توارثوها أبا عن جد دون ذنب اقترفوه سوى أنهم يهود وغير مسلمين حد تصريح الحوثيين آنذاك.  
وبعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، وتحديدا في مارس 2016 هجّرت المليشيا الحوثية 17 شخصا من يهود اليمن إلى إسرائيل. ، ولا يزال الحوثيون إلى اليوم يستهدفون اليهود اليمنيين بشعارات تحريضية طائفية، كما يستهدفون بقية فئات المجتمع؛ على الرغم من سلمية اليهود اليمنيين، والتزامهم الكامل بالنظام والقانون، واحترامهم لعادات وتقاليد إخوانهم المسلمين.
وباستقراء تاريخ اليهود في اليمن على الأقل منذ العصر الإسلامي فما بعده لم نجدهم يوما ما يمثلون خطرا على الوطن أبدا، ولا على هويته؛ بل على العكس شكلوا أحد الروافد المهمة على الصعيد الاقتصادي والثقافي، ولعبوا دورًا إيجابيا كبيرًا في الحياة العامة، ولا أدلَّ على ذلك من حفاظهم على هويتهم اليمنية وعاداتهم وتقاليدهم حتى في داخل إسرائيل منذ هجرتهم إليها آخر أربعينيات القرن الماضي. ثم إن الفنون اليمنية اليهودية تملأ المدن والأرياف بزخارفها وتشكيلاتها ونُحوتها الخشبية على العملات والتحف والأواني، وأيضا الأغاني والألحان التي تملأ الريف اليمني، فنون مستوحاة من الهوية التاريخية لليمن، ومن بيئته. ومشغولاتهم الفنية والحرفية مضرب المثل في الجودة والجمال والإتقان. وكانوا من أكثر الفئات الاجتماعية التي استطاعت الحفاظ على القراءة والكتابة والترجمة حين عمدت الإمامة إلى تجهيل الشعب ومحو هويته. وفي العقود الأخيرة ــ على الأقل من ثورة 26 سبتمبر 62 ــ لم نسمع عن خيانة وطنية واحدة من قبل اليهود اليمنيين، ولم نرَ يهوديًا يرفع العلم الإسرائيلي، أو حتى يتعاطف معهم في حروبهم تجاه الفلسطينيين، ومن اقتنع منهم بفكرة أرض الميعاد غادر البلاد نهائيا، واستوطن وطنه الجديد، فيما الحوثيون يمثلون في حد ذاتهم كتلة خيانات ومؤامرات ضد الوطن، مرتبطين روحيا بإيران، ومتنكرين لليمن تاريخا وحضارة. 

2ــ الحوثيون وتهجير سلفيي دماج
دَمّاج قرية تقع في وادٍ جنوب شرق مدينة صعدة بشمال اليمن، وهي تابعة إداريًا لمديرية الصفراء من محافظة صعدة باليمن، وتأتي شُهرة هذه البلدة بوجود مركز دار الحديث الذي أسسه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي أحد مشايخ السلفية باليمن في العام 1979م، عقب عودته/ إعادته من المملكة العربية السعودية، مشتغلا بالعلم، بعيدًا عن قضايا السياسة، وتوافد على مركزه الآلاف من الطلاب من الداخل والخارج، من جنسيات عدة، يعيشون حياة بسيطة، منكبين على الحلقات العلمية والتعبد، ومتشددين في الجوانب العقدية، محاربين الخرافات والشركيات وتقديس الأشخاص وقبور الصالحين. 
ولأنهم بهذا الفكر الذي لا يروق للجماعة الحوثية، وأيضا لأنهم موالون للدولة، فقد اتخذ الحوثيون منهم موقفا حديًا، واعتبروهم عدوا لهم، لذا قرروا ترحيلهم وتهجيرهم نهائيا، وإخلاء الساحة لهم وحدهم. 
ووفقا لتقرير مجلس الأمن: "فرض الحوثيون حصارًا على قرية دماج، استمر من منتصف تشرين الأول: أكتوبر، حتى نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2011م، وتسبب القتال في تعطيل الخدمات الاجتماعية الأساسية، مما ألحق ضررًا شديدًا بالسكان البالغ عددهم 12,000 ألف نسمة، وعلاوة على ذلك كان الحوثيون مصدرًا لعددٍ من التحديات؛ حيث فرضوا شروطا على المساعدات الإنسانية، مثل فرض قيود على التوظيف على تحركات الأفراد والإمدادات داخل صعدة، وأدت القيود المفروضة إلى تضييق مجالِ العملِ الإنساني أمام العديد من المنظماتِ، ونتيجة لذلك فإن بعضَ الوكالات الإنسانية انسحبت الآن تماما من محافظة صعدة". 
 وخلال الفترة المذكورة قاموا بقتل بعض طلبة العلم عن طريق القنص من الجبال، وكان من بين القتلى امرأة. ثم شنوا هجومًا في 26 نوفمبر 2011م، بالقذائف المدفعية والهاون قتل فيه أكثر من 20 قتيلا، من أهل السنة واستمر القصف والقنص والمواجهات إلى أن وصل عدد القتلى من أهل السنة حسب مصادرهم إلى 71 قتيلاً والجرحى إلى أكثر من 150 جريحًا، انتهى الحصار بعد توقيع الصلح بين الطرفين في 22 ديسمبر 2011م. 
ومع هذا وكعادة الحوثي في نقض العهود وخيانة العهود، فقد تكرر الحصار مرات عدة كان آخرها في أواخر أكتوبر 2013م، وبصورة أشد من سابقه؛ حيث تجدد الحصار مع القصف بالأسلحة الثقيلة على دار الحديث بدماج من قبل مسلحي الحوثيين، فمنعوا من أراد الخروج من أجل العلاج؛ بل منعوا أهلَ دماج من الخروج لتأدية مناسك الحج في ذلك الموسم، وبرر الحوثيون حصارهم بأن الشيخ يحيى بن علي الحجوري قيم دار الحديث بدماج يجهز لحربهم، بالاستعانة بقائد الحرس الخاص طارق محمد عبدالله صالح والحكومة السعودية..!! وهي تهمة سافرة، يعرفها الجميع؛ إذ لا علاقة للشيخ الحجوري بالحروب من أساسها، فحروبه لا تتجاوز بطون الكتب والمدونات. 
في 15 يناير تم تهجير الآلاف من سلفيي دماج مع أسرهم وحوالي 12 ألف طالبا باتجاه العاصمة صنعاء وبعض المدن اليمنية، بعد اتفاق رعته الحكومة، فيما كانت بعض جثث طلاب العلم مرمية في الأحراش، منها 97 جثة لطلاب عرب وأجانب. بعدها سيطر الحوثيون بصورة نهائية على القرية الكبيرة، بما فيها بعد أن تم تهجيرهم. 
والواقع لقد اختلف السلفيون الدماجيون مع غيرهم، واختلف غيرهم معهم كثيرا في مسائل دينية أو علمية؛ لكن رغم هذا الاختلاف الطويل لم تنتج عنه عمليةُ عنفٍ واحدة من قبلهم، وإذا ما تمت مناقشتهم فإنهم أكثر احتراما للدليل العلمي. إنهم حدّيون مع غيرهم، ولكن في الأقوال لا في الأفعال، وما يميزهم عن غيرهم أنهم إذا عاهدوا أوفوا بعهودهم، ولا يتجرؤون على نقضها كما يفعل الحوثيون. علما أن الجدل الدائر معهم لا يعدو الجدل الكلامي فقط، ولم نسمع يوما ما أن دمّاجيا قطع الطريق أو حمل البندقية أو اعتدى عليه غيره. حتى حضورهم على المستوى الاجتماعي والثقافي كان ضعيفًا، فلم يكونوا مندمجين بغيرهم كثيرًا، ولذا عندما هاجمتهم المليشيات الحوثية لم يتفاعل معهم إلا القليل من النخبة الإعلامية والحقوقية؛ لأنهم لم يستطيعوا إيصال مظلوميتهم للرأي العام، ولم يكونوا مرتبطين بمنظمات حقوقية أو إنسانية، ولا صلة لهم بالأحزاب، ولا يزالون إلى اليوم كذلك. كل هذا لم يشفع لهم عند الحوثي أن يمارسوا معتقداتهم أو شعائرهم وفقا لما يعتقدونه. والأهم من هذا وذاك أنهم يؤمنون بولي الأمر المتغلب، على أي نحوٍ كان، ولا ينازعونه الحكم، ويعتبرون ذلك من العقائد، وكان بوسع الحوثي أن يُزايدَ بهم أمام الرأي العام بأنه يقبل بالمناوئ له؛ لكنه لم يتحمل بقاء فكرة واحدة مغايرة لفكرته، ولن يكون بطبيعة الحال، فشرد بهم ونكل، كما فعل قبل ذلك مع اليهود، الأقلية الدينية "المجهرية" المعروفة بسلميتها وموادعتها. 

3ــ الحوثيون وتهجير الطائفة البهائية
تذكر المصادر التاريخية أن التواجد الأولي للطائفة البهائية في اليمن يعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي. حيث تواجدوا في المدن الساحلية لأول مرة، كالمخا وعدن والمكلا والحديدة ولحج، ومنها تناقلوا إلى بعض المدن اليمنية، مثل تعز وإب وصنعاء، وكانوا كغيرهم من الجماعات الأخرى، مواطنين يمنيين، يدينون بمعتقداتهم، كما يدين اليهود في صنعاء، والهندوس والمسيحيين واليهود أيضا في عدن، وكما تدين بقية الجماعات الأخرى بمذاهبها ومعتقداتها، وكلٌ يتقبل الآخر، ويتعايش معه برحابة صدر. 
والبهائية جماعة سلمية، تكاد تكون مجهرية، لمحدودية منتسبيها وقلتهم، وهي مندمجة في المجتمع بصورة طبيعية، ولا يمتلكون برنامجا سياسيا مناوئا لأحد. تتوزع في كثير من الدول بطريقة عنقودية، ولا تمثل خطرا على أي دولة. ويكاد أغلب اليمنيين لم يسمع بهم في فترة النظام السابق كاملا. 
في السنوات الأخيرة ضاقت بهم الجماعية الحوثية، كما ضاقوا بغيرهم، فشنت عليهم حملات إرهابية مادية ومعنوية متتالية، كعادة الحوثيين في التعامل مع مَن عداهم، ابتداءً من يهود آل سالم، فسلفيي دماج، فالأحزاب السياسية بعد ذلك، وانتهاء بالبهائيين. 
ووفقًا لتقرير مجلس الأمن الدولي للعام 2018م، الذي تحدث عن التهجيرات الحوثية وإرهابها تجاه من عداها، قال: "منذ العام 2016م حُرم الكثير من أتباع الديانة البهائية من حريتهم، أو ألقي القبض عليهم بطريقة لا تُراعي الإجراءات القانونية الواجبة. وفي عام 2018م واصل الفريق التحقيق في حالات تتعلق بأتباع الديانة البهائية، ممن سُلبوا حريتهم، و/ أو اعتقلوا، و/ أو صودرت ممتلكاتهم، بطريقة لا تراعي الإجراءات الواجبة. ويشكل سلب حرية مجموعة من الأفراد أو مصادرة ممتلكاتهم بسبب أنشطتهم الدينية انتهاكا لقواعد حقوق الإنسان". 
لقد تم الزج برؤوس الجماعة البهائية إلى السجون، وتلفيق التهم الكاذبة عليهم، ثم محاكمتهم شكليا، من قبل قضاة يتبعون الجماعة، والحكم على رئيسهم حامد حيدرة بالإعدام تعزيرًا، بعد سجنه أكثر من أربع سنوات، وأيدته محكمة الاستئناف، بعد مصادرة كل أمواله، لا لجرم اقترفه هو وجماعته؛ إنما لأفكارهم ومعتقداتهم الخاصّة، وقد ظلوا في المعتقلات الحوثية شهورا طويلة، حتى تم إجبارهم على مغادرة الوطن كرهًا، بعد مفاوضات مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان مع الحوثي بشأنهم، حيث اشترط الحوثيون على ستة أفراد من القيادة البهائية مغادرة البلاد أو البقاء في المعتقلات؛ ففضلوا مغادرة البلاد إلى إحدى الدول الأوروبية، لعدم احتمالهم لصنوف التعذيب في المعتقلات. ، وكم هو مؤلم على الإنسان مغادرة وطنه قسرا، ومفارقة أهله ودياره. 
إنه التوجس النفسي المتمكن من ذهنية الجماعة الإرهابية التي تسيء الظن عادة بكل مخالف لها، كما عبر عن ذلك إمامهم أحمد بن سليمان في القرن السادس الهجري، حيث يقول شعرًا: 
إذا ما خفتَ في بلد عدوا          فخالفْ ظنه في كل فن
وخف من كنتَ تأمنه احتياطا   وظن بمن تعادي شرّ ظن
إن هذين البيتين بقدر ما يحتويان على تكتيك سياسي قد يبدو بارعًا وذكيًا، بقدر ما يكشف أيضًا حجم الرهاب النفسي والخواف الذي يسكن هذه الجماعة نفسيًا من الداخل قديما وحديثا، فكل مُغاير أو معارض لهم هو في نظرهم عدو يجب استئصاله وإبعاده والقضاء عليه نهائيا. وهذا ما رأيناه في تصرفات سلالته اليوم. 

4ــ تهجير شامل
ليس اليهود أو السلفيين أو البهائيين وحدهم من هجرهم الحوثيون من اليمن؛ بل ملايين اليمنيين هاجروا قسرا، تاركين بيوتهم وأموالهم إلى خارج الوطن، حفاظا على أمنهم الشخصي، وقد صادر الحوثيون ممتلكاتهم، ولاحقوهم إلى حيث يقيمون، ما اضطر الملايين من اليمنيين إلى الهجرة، سواء الهجرة الداخلية إلى مناطق لا تسيطر عليها الجماعة، أو إلى خارج الوطن، حيث يقيم كثير من اليمنيين في المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا وماليزيا ودول شرق أفريقيا. 
والأهم هنا أن أغلب من اضطرتهم الظروف للهجرة هم من النخبة اليمنية العالية، من الساسة والعلماء والأدباء والاقتصاديين ورجال الدولة الذين حُرمت من خدماتهم الدولة، وقد أهلتهم سنوات طويلة لخدمتها، فاستفادت منهم أغلب الدول التي هاجروا إليها، باعتبارهم نخبة نوعية وكوادر مؤهلة في مختلف المجالات.