الحروب ضد عصابات تهريب المخدرات والدول التي تقف وراءها تظل هاجساً يومياً للدول سواء كان الأمر في منطقة الشرق الأوسط التي كانت وما زالت هدفاً للإغراق بالمخدرات، أو في أوروبا وأميركا. وقد يبدو للوهلة الأولى أن اهتمام شبكات العصابات في إيصال سمومها إلى الناس مرده البحث عن أرباح مليارية سهلة في دول تمتاز بطلب وقدرة شرائية أوسع، على أن للأمر وجهة أعمق تتجاوز ذلك بكثير حينما تحركه أجندات سياسية وأمنية خفية بهدف تركيع بعض الدول وإجهاض مساعيها لتحقيق التقدم الشامل.
وتحارب قوى إنفاذ القانون في السعودية وبقية دول الخليج في جبهة واسعة لضرب الأدوات العملياتية لشبكات المخدرات، وهي تدرك أن الأمر أوسع من مجرد إيقاف ملايين حبوب الكبتاغون التي تتقاطر من كل حدب وصوب، وأن حقيقتها تتلخص في محاولات يائسة لضرب رؤية التحديث في المنطقة المستهدفة في الأصل، كما كمنت أهدافها وما زالت في الغرب، في نخر أسس المجتمع الأميركي المبدع وإجهاض مكامن القوة فيه.
وفي الولايات المتحدة وبمناسبة بدء حمى انتخابات 2024 الرئاسية، تتبارز خطابات المرشحين لعكس رؤاهم لمواجهة هذه الآفة التي أودت خلال عام 2021 بحياة أكثر من 70 ألف نسمة في الولايات الأميركية كافة، وذلك بسبب الانتشار غير المسبوق لمخدر الكبتاغون، المعروف أيضاً بـ"الفينتانيل"، الذي تصنعه كارتيلات المخدرات في المكسيك المجاورة، وتنقله ضمن شبكة معقدة وبوسائل شتى إلى الداخل الأميركي. وفي مؤشر لخطورة أبعاد الكبتاغون ضمن الصراع الدولي، نشرت صحيفة "الغارديان"، اتهام المشرعين الأميركيين الصين بتصنيع وبيع سلائف الفينتانيل لعصابات المخدرات الدولية، ومن بينها عصابات المكسيك.
وفي كل عام تقوم سلطات الجمارك في دول الشرق الأوسط بضبط شحنات من حبوب الكبتاغون مخبأة داخل صناديق الخضراوات والفواكه ومعلبات المواد الغذائية وحتى في بطون الماشية، وفي شهر مارس (آذار) الماضي ضبطت السعودية 8 ملايين حبة كبتاغون ونشرت صوراً للمهربين. وخلال الفترة الممتدة من عام 2015 وحتى نهاية العام الماضي، تكون السعودية ضبطت ما مجموعه 700 مليون حبة من المخدر القاتل الذي يستهدف شريحة الشباب دون سن الـ30 الذين هم عماد التقدم وأدواته في دول المنطقة.
في الحقيقة إنها معركة لا تنتهي، فأمام هذه الهجمة الشرسة لتجار المخدرات، وقدرة الأجهزة المعنية على ضبطها، تقف بعض الدول عاجزة أمام حبة الكبتاغون التي يكلف إنتاجها بضعة سنتات فيما تباع بما يتجاوز 20 دولاراً في دول الخليج، وتعود بأرباح خيالية على تجار المخدرات لأن ما يضبط لا توازي نسبته 20 في المئة من المستهدف تهريبه، إذ يجني النظام السوري الذي قدر معهد "نيولاينز" الأميركي أن عوائده من تصنيع المخدرات وتهريبها بلغت 5,7 مليار دولار خلال عام 2021، فيما قال السيناتور الجمهوري فرنش هيل عقب إقرار الكونغرس قانون مكافحة الكبتاغون في ديسمبر (كانون الأول) 2021 إن النظام السوري جمع 57 مليار دولار من تجارة الموت هذه.
حروب دونكيشوت ضد طواحين الهواء
معارك أميركا ضد المخدرات تمتد منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي تنشط إعلامياً خلال الحملات الانتخابية، إذ تشهد المنافسات بين المرشحين لانتخابات الرئاسية في العام المقبل تعهدات متعددة من بينها رؤى مختلفة لمحاربة المخدرات. إذ أعلن الرئيس السابق دونالد ترمب استعداده لشن حرب، وفرض حظر بحري شامل على كارتيلات المخدرات في المكسيك، فيما قال المرشح الجمهوري المنافس تيم سكوت، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كارولينا الجنوبية، إنه بصدد "استخدام أقوى جيش في العالم لحل المشكلة"، وفي استفتاء للرأي أجري حديثاً تبين أن الناخبين الجمهوريين يتطلعون إلى مثل هذه المواقف القوية لمواجهة آفة المخدرات.
وأكد عديد من رجال الفكر والإعلام في أميركا خطورة الخطاب الإعلامي الذي يتبنى شن الجيش الأميركي حرباً داخل دولة المكسيك المجاورة ضد أكبر عصابتين لتصنيع وتهريب مخدر الفينتانيل وهي "سينالو" و"خاليسكو"، كان آخرهم الإعلامي فريد زكريا في برامجه "جي بي أس" GPS، على قناة "سي أن أن" الإخبارية، من حيث أنه يصب في صالح النبرة الشعبوية للرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، ويغذي الروح المعادية لأميركا لدى جارتها الجنوبية. كما أنه لم يكن بمقدور الجيش الأميركي القضاء على تجارة المخدرات في أفغانستان التي احتلها لـ20 عاماً، ولكن الحال مع المكسيك ستكون أكثر تعقيداً، نظراً إلى وجود مساحات شاسعة من أراضي الجارة الجنوبية تحت سيطرة عصابات الجريمة المنظمة، وتجار المخدرات والميليشيات المسلحة، بما يهدد الأمن القومي لدول المنطقة.
ودليلي على ذلك ما حدث قبل أيام حينما تمكنت أجهزة مكافحة الجريمة المنظمة في المكسيك من القبض على اثنين من عصابة "لوس آرديوس"، وهي واحدة من بين 16 عصابة للجريمة المنظمة والمخدرات المنتشرة في المكسيك. وتسبب استهداف قيادة هذه العصابة التي تعمل في ولاية غيريرو الجنوبية، في عنف اجتماعي في عاصمة الولاية حيث خرج آلاف من السكان المسلحين لمواجهة الشرطة والحرس الوطني، واحتجزوا موظفين حكوميين رهائن، ودمروا المنشآت العامة مطالبين بإطلاق سراح رجال العصابات بسرعة.
قد تكون المعركة التي تخوضها أميركا ضد عصابات المخدرات مستحيلة نظراً إلى القاعدة التحتية المعقدة والواسعة لعصابات المخدرات المكسيكية المنتشرة داخل الأراضي الأميركية، ولا يمكن للدولة المكسيكية التورط في حرب عصابات المخدرات، من منطلق أن مجرد القبض على عنصر من عناصر مافيا المخدرات مثلما حدث في يناير (كانون الثاني) الماضي مع حال القبض على ابن بارون المخدرات "إل تشابو" في ولاية ساينولا، قد يؤدي إلى حرب محلية واسعة، ولكن الأمر يختلف في منطقة الشرق الأوسط فعلى رغم حجم التحدي، إلا أن كارتيلات المخدرات معروفة، وكذلك الدول التي تعمل على انتشارها، وشبكات إيصالها، وعناصر الفساد التي تتغذى منها.
إيران والفرقة الرابعة و"حزب الله"
تقول لورين لانييل المسؤولة في المركز الأوروبي لمراقبة المخدرات والإدمان إن الفينتالين الذي بدأ تصنيعه في ثمانينيات القرن الماضي في أوروبا الشرقية دمر معظمه خلال عمليات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في التسعينيات، فيما نقلت تلك البنية التحتية من بلغاريا إلى الشرق الأوسط عبر تركيا. وخلال السنوات اللاحقة عملت تركيا على تقييد مجال نشاط تجارة المخدرات على أراضيها، مما دفع مختبرات التصنيع للانتقال إلى الشرق الأوسط، إذ تعمل اليوم في سوريا بإشراف الفرقة الرابعة في جيش النظام بقيادة ماهر الأسد، وقيادات "حزب الله" التي تعمل في مناطق الشريط الحدودي بين لبنان وسوريا. وتضم قائمة المتورطين موظفين مدنيين كباراً ورجال أعمال وقادة ميليشيات وأفراداً مقربين من رئيس النظام بشار الأسد، إضافة إلى قيادات "حزب الله" المتهمين بتوفير الحماية العسكرية واللوجستية لمعامل الكبتاغون وتوزيع الحبوب المخدرة.
ومما يعمق الاعتقاد بوجود مؤامرة أوسع ضد دول المنطقة تؤشر إلى تورط نظام الملالي في إيران أو دول أخرى، ما تعتقده السيدة لانييل من المركز الأوروبي لمراقبة المخدرات بأن شبكة تصنيع وتوزيع الكبتاغون تتجاوز حدود وقدرات النظام السوري، وهي تجد صعوبة في تصديق أن الحكومة السورية بإمكانها توفير أطنان من الكبتاغون من دون أية مساعدة خارجية. وتواجه السلطات الخليجية تدفقات غير مسبوقة من حبوب الكبتاغون، فخلال عامي 2020 و2022 ارتفعت عدد الشحنات المضبوطة في المنطقة من 80 إلى 513 في السنة بزيادة بنسبة 541 في المئة، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة.
ولم تعد حبوب الكبتاغون تعتمد طريقاً مباشراً من لبنان إلى دول الخليج، بل صارت أكثر ابتكاراً حيث تسافر إلى دول بعيدة آسيوية وأفريقية وأوروبية قبل أن تصل إلى دول المنطقة، إذ ضبطت شحنات حبوب الكبتاغون في اليونان وإيطاليا وهي في طريقها لإعادة التصدير إلى دول المنطقة، أو تلك الشحنات التي كانت متوجهة من ميناء طرابلس اللبناني إلى السعودية عبر السنغال، قبل أن تصادرها أجهزة الأمن اللبنانية.
إن الحرب ضد الكبتاغون هي حرب سياسية بامتياز تتطلب ضرب بنيتها التحتية وشبكاتها المعقدة وبنى الفساد التي تساعد في انتشارها وتعزيز التعاون الدولي، ففي وقت صارت معه حروب مكافحة المخدرات أكثر تعقيداً وأقرب إلى الاستحالة في أميركا، نظراً لتغولها في بنية دول أميركا الوسطى والجنوبية، بما في ذلك الداخل الأميركي، إلا أنها تظل حرباً يمكن الانتصار فيها في منطقتنا التي تشهد عنفواناً، ونهوضاً يأبى أن تكسره حبة كبتاغون.
عن "اندبندنت عربية"