الرواية (ليست الأخيرة) من صنعاء المكلومة..."مسلحون مجهولون على متن دراجة نارية يطلقون النار على جسد قاضي المحكمة التجارية ويلوذون بالفرار.."
هذه الرواية ومثيلاتها فقدت مصداقيتها والوثوق بها في الشارع اليمني بعد أن تكررت كثيرًا بحق سياسيين وناشطين وحقوقيين وتجار، وأصبح القتل يتربص بالأبرياء في أزقة صنعاء وشوارعها ويجوب أحياءها لينتهي الأمر بضحية ومجهول وشارع لا يثق بالروايات واللجان المُشكّلة، في بلدٍ غارقٍ في مستنقع الظلم، وأيسر ما فيه اغتيال أحلام الناس البسطاء، ورصاص لا تكلف سوى التخلي عن قيم الإنسانية لتسكن في صدور الأبرياء ومن ورائهم أسر يتألمون، وتزيد من قتامة الصورة وحجب رؤية مستقبل البلد.
رصاص الغدر التي اختفت من الدول التي تسود فيها القوانين وتحضر بأجهزتها وإنسانيتها لترسيخ العدل وبث الأمن والاستقرار عادت إلى صنعاء مرة أخرى راكبةً وراجلة باحثة عن ضحاياها من الأبرياء. حضرت تلك الرصاصة في وسط صنعاء لتستقر في جسدٍ نذر صاحبه نفسه لإرساء العدل ونصرة المظلومين ومحاربة الفاسدين، والمضي نحو ذلك متمسكًا بعهده الذي أداه ومصطحبًا قيمه وإنسانيته في أداء رسالته. ضحية الرصاصة الغادرة المنسوبة إلى مجهول هو قاضٍ من العيار الثقيل، لم يصل إلى دفة القضاء كما يفعل الكثيرون عن طريق المحسوبية والوساطة والالتفاف والمحاباة، فهو من القلة الذين جاءوا من خارج هذه الدائرة المشبوهة ومنظومة عفن الأسرة، جاء بمؤهلاته وإمكانياته واحترافه إلى العمل القضائي بعلمٍ ودراية، جاء بمهنيته العالية وتفوقه على أقرانه منذ أن كان طالبًا في جميع المراحل الدراسية، ويوم تخرجه من المعهد العالي للقضاء.
كانت عقارب الساعة قد تجاوزت الواحدة ظهرًا بقليل من يوم الجمعة 6 أكتوبر 2023، حينما كان رئيس المحكمة التجارية بأمانة العاصمة القاضي خالد حميد الأثوري خارجًا من أداء صلاة الجمعة في أحد المساجد بحي الجراف وسط العاصمة صنعاء، عندما استقرت أعيرة نارية غادرة في جسده من بندقية مجهولين -بالنسبة لنا حتى الآن- كانوا على متن دراجة نارية ملثمين بالخطيئة، ارتكبوا الجريمة ولاذوا بالفرار.
رغم أنه في عنفوان الشباب، إلّا أن تاريخه القضائي المحدود والمشهود جعله يتولى عبء محاكمات من العيار الثقيل في إدارة ملفات شائكة ووقائع جلسات مثيرةٌ ومعقدة بكثيرٍ من الحسم والصلابة والصرامة؛ ليؤكد أن النجاح لا يُحسب بالسنين والأعمار بل بالأثر والإنجاز.
قاضٍ تشهد له منصات المحاكم وجلسات المرافعات بدءًا من محكمة شرق الأمانة التي عمل رئيسًا لها، وانتهاء بالمحكمة التجارية التي عُيّن رئيسها، أن الناس عنده سواسية، وأنه لم يسمح للظالمين إلا أن يكونوا على مسافة واحدة مع ضحاياهم من البسطاء المقهورين؛ لتحقيق العدل، ولسان حاله: لا شيء أقدس من العدل، نحيا به وله ومن أجله. وهذا قد لا يروق كثيرين من النافذين ومن اعتادوا الوصول إلى مآربهم بطرق لا يتقنها القاضي خالد الأثوري.
لا شك أن وجود قضاء نزيه يُعدّ مظهرًا من مظاهر الدولة التي تحترم القوانين الإنسانية وتقدرها دون أي تحريف وتلاعب واستغلال، بحيث ينال الظالمون والفاسدون جزاءهم الرادع والعادل وفق القوانين النافذة والمساءلات القانونية والمحاسبات النزيهة، وهذا ما يجب أن يكون، ولكن عندما تتشوه المبادئ وتتلاشى الدولة يصير البشر ملوك الغاب، وتطال أيدي الإثم القضاة العادلين ليعلو الظلم، وتنتفي العدالة، وهذا ما وصلت إليه صنعاء.
وما يدعو للضحك هو حالة اللصوص الذين يطلون بأشكالهم الغريبة من شرفات طيرمانتهم في صنعاء العتيقة ليطلقوا الاتهامات - كعادتهم- تارة على السعودية وتارةً على أمريكا وإسرائيل، فيما الجناة الذين يتسترون عليهم يسرحون ويمرحون في شوارع صنعاء بلا رقيبٍ أو حسيب.
قالوا إن الجميع تحت مطرقة القاضي وميزانه سواء؛ لأنها رموز للعدالة، إلّا في صنعاء، فلا يبدو في الأفق أي مخرج، فسياط الظلم لا تزال مسلطةٌ على ظهور المستضعفين، والفساد إلتهم صنعاء وأغرقها في عوالم لا حدود لها من الانحدار بعد أن سادت الدنيا. والرصاص الذي اخترق جسد القاضي اليوم، سكن في قلب القضاء أولًا وإرهاب القُضاة؛ ليتربع الفاسدون على عرش ممالكهم التجارية التي بنوها من عرق هذا الشعب وأنينه وحاجته.
ورغم هذا لن نبتئس، فغدًا بإذن الله أجمل!
قُمّ يا قاضينا، فحمدًا لله على سلامتك.. "أدري الأسىٰ، أدري بأنّك لم تعُـدْ تتحمّـلُ .. لا تبتئسْ فغدًا بإذن الله يومُك أجملُ .. وغدًا سرورك بعد حُزنُك يكمُلُ"
قُم واجعل من قلمك ويدك ولسانك نجاةً لقضايا الآخرين ونُصرةً للمظلومين..
قُم وأخبرهم أن الفرق بين القاضي والجاني مطرقة وميزان
وأن المطرقة لا تزال بيدك
يدك التي اخترقتها رصاص الغدر
قُم واقرع بمطرقتك طاولة العدالة ونكِّس رؤوس الفاسدين،
وافتح القضايا القديمة قاضيًا شرسًا دونها؛ لتهدأ صنعاء ويسكت ضجيجها ويعود إليها ألقها، وينتهي العبث التجاري فيها..
قُم واتل الحكم النافذ على الفاسدين
قُم وارفع الجلسة ليعُمّ المكان هتاف المقهورين..
قُم يا صديقي فـ"مَن رام نيلَ العزِّ فليصطَبِر على .. لقاءِ المنايا واقتِحامِ المَضايقِ"