كتبت هذا العنوان على حائطي يوم فرار الرئيس الاسد وسيطرة المعارضة السورية على الوضع في بلدهم في 6 ديسمبر الجاري (2024).. كلمات مفككة ومختصرة لكني وجدتها موجعة بمقابل البهجة التي ظللت سماء سوريا، وارتسمت في عيون ملايين ممن طالهم طغيان الحاكم وجبروت السلطة.
سوريا.. قصة لم تنتهي، كلمات، لم تكن لهدف التقليل من فرحة السوريين باسقاط احد اعظم طغاة العصر العربي، فالوجع واحد، وطغاتنا كلهم عظماء في قهر شعوبهم في المشرق والمغرب .. كلهم يحكمون بالحديد والنار، وكلهم مشاريع تجويع، وتشريد، وسجون ومعتقلات ممتلئة بالابرياء والمظلومين.. شُبهةٌ من لاَ شْبهة له عند اجهزتهم تقوده حتما للخطف والاعتقال والتعذيب فالموت.
كلهم يقتلون بتهمة وبدون تهمة .. شعارهم الوحيد الذي يحفظونه من القرآن الكريم "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، وهي الاية الوحيدة التي يحفظونها، وبها يعدون العدة ويجمعون العتاد ويتسلحون ليس لمواجهة من يدنس ارضهم وينتهك سيادة بلدانهم، وانما لقمع شعوبهم، وانتهاك حقوقهم، ومصادرة حقهم الرباني في العيش والحياة الامنة.
سوريا قلب الامة وجوهرة الشرق.. حينما اختل نظام الجمهورية فيها اختل في كل الجسد الجمهوري العربي، وساد فيه نظام العصبية والتوريث، وحينما ازدهرت اجهزة القمع فيها انتشرت التجربة وساد التماثل، فصار الرؤساء اصناما ومقدسات لا تمس، وسقطت في ظلهم الدساتير، ونصوص الحقوق والحريات، وبقيت الاعلام والاناشيد الوطنية يتيمة تغرد لوحدها في سرب الشعارات.
تجربتنا الاليمة:
وهنا اقول لكم لماذا سوريا "قصة لم تنهتي"؟!
لان تجربتنا مع الفوضى "الخلاقة" بينة ولا تحتاج الى شرح ولا الى تفصيل؛ فالعالم الذي تحالف وهلل لاسقاط النظام والدولة في العراق والتضحية ب"صدام" ليلة العيد، هو نفسه الذي هلل لتعميم الفوضى واسقاط الدول في اليمن، وليبيا، و السودان ، وهو نفسه الذي وعد بتعبيد الطريق للحل، لكن ما ان فرغنا من تدمير كل شيء فينا بدأوا نهب الثروات كل بطريقته وقالوا نحن لا نحل المشاكل، وانما نسوي الملعب.
لن اخوض فيما جرى في كل بلد عربي مزقوه او حاولوا، ولكني ساعرض برؤوس اقلام تجربتنا في اليمن .. التي بدأت في 2011 ولم تنهتي؛ كانت - ولا تزال - مريرة ومدمرة.. هب الجيران ودول العالم والاقليم بمبادراتهم مذعورين و"مستبشرين"، واشتروا ذمم الكبار والصغار بالخطط وبالاموال المدنسة، واصبح الوطن فريسة في ايديهم.
- هب العالم والامم المتحدة، ومنظمات الحقوق والحريات وصفقوا للتغيير والفوضى، وكان العالم معنا ومن حولنا يقطر انسانية ووعودا ودعما وتهليلا ومبادرات.. وقالوا سيساعدونا على بناء دولة مدنية حديثة، وبعد عشر سنوات كانت النتيجة كما ترون..!!
- خرجنا في 2011 لاقسقاط النظام وسقطنا واسقطنا النظام.. وسقطت الدولة.. وكان القتلٌ والتخريبٌ والتجويع، وقطعُ الطريق وتمزيق الوطن، وتشريد شعب باكمله.
- كنا وطنا موحدا بعلم واحد ونشيد واحد، ودستور واحد ومؤسسات دستورية موحدة، فمزقوا الوطن والدستور، ومزقوا المؤسسات كما مزقوا العملة.. رمز السيادة الوطنية.
- بدلا من الدولة المدنية الموحدة الموعودة اصبحنا اكثر من شمال وجنوب، صارت عندنا عصابات تحكم (مقاطعات) شبه دويلات منفلته، واعلام تُرفع.. منها للاستقلال، ومنها للحكم الذاتي، ومنها للانضمام لدويلات مجاورة مستحدثة طارئة.. وصار عندنا اكثر من رئيس واكثر من زعيم.
القصة لم تنتهي:
في سوريا، القصة اليوم تتكرر، فرحنا جميعا بفرار بشار، وسيطرة الجيش الحر.. ونسمع التهليل والتكبير من البيت الابيض الى الاليزيه الى مجلس العموم البريطاني، واسبانيا والمانيا، والمنادات الحنونة لدعم النظام الجديد، وتاييد خطواته، وسحب الجيش الحر، وجبهة النصرة، وكل الفصائل الدينية المسلحة من القوائم السوداء، وتلك خطوات بديعة ورائعة.. كلنا صفقنا لها وهللنا وكبرنا ولا نزال نصلي حمدا لله على هذا النصر المبين، وعلى نجاح الثورة البيضاء ..لكن بالمقابل ما ذا جرى؟!
بالمقابل وفي لحظة الانتصار والنشوة اعطى العالم المهيمن الاشارة لاسرائيل، ليس فقط لان تحتل الجولان، وانما لان تدمر كل قدرات سوريا العسكرية والاستراتيجية، وتضرب في العمق السوري في اوسع هجوم جوي لها كل المطارات والقواعد العسكرية البرية والبحرية، ومنشاءات الطاقة الحيوية، وكل ما له علاقة بالدفاع ولم نسمع ادانة او استنكار واحد حتى من الجيش الحر نفسه..!!!!
دمروا كل شيء في سوريا لتصبح سوريا دولة منزوعة السلاح.. تماما كما فعلوا مع لبنان وكما فعلوا مع العراق واليمن ويفعلونه مع السودان ايضا.
القصة في سوريا لم تنتهي .. لان في سوريا اكثر من عشرين فصيل وجبهة وقوة اسلامية، وغير اسلامية، وكلها لها رأي وموقف، وكلها قاتلت النظام ايضا، ولن تسلم لطرف دون طرف.. يعني لا تزال النار تحت الرماد، والمسألة وقت..
سايكس بيكو جديد:
في سوريا الوضع معقد وشائك، الاكراد يريدون دولة، الاتراك يريدون سوريا ذليلة خاضعة بلا مشاكل على حدودها، ايران ادت دورها بطريقتها وبما يخدم مصلحتها في غزة ولبنان وسوريا وانسحبت مقابل ضمانات بعدم ضرب منشاءاتها النووية، ورفع تدريجي للعقوبات، والحفاظ على مصالحها، وهي تعرف اين مصلحتها.
ما يجري اليوم هو سايكس بيكو جديد في المنطقة، مصالح الدول تتحكم في مساراتها.. روسيا تخلت عن الاسد مقابل بوادر حل يلوح مع مجيء ترامب في اوكرانيا، مع (محاولة) الاحتفاظ بقواعدها وتواجدها في سوريا، وهي ترتب مع النظام الجديد وتتواصل معه عبر "الوسطاء" كما قال لفروف.
سوريا مرشحة لسيناريو جديد.. طوائف واعراق واقليات وفصائل مسلحة متوثبة للاقتتال، والدولة العميقة في الطريق.. والقوات الامريكية تقول انها تضبط الحركة في المشهد السوري، وكما يقولون "المتغطي بغيره عريان".
ثم تعالوا الى الاهم، فرق استخباراتية امريكية- بريطانية اسرائيلية تتوافد اليوم على سوريا جماعات وفرادا، واللعبة لا بد ستسخن كثيرا، وما حصل من تدمير بنيوي في العراق، وملاحقة للعقول وقتل للعلماء (ربما) تنتظره سوريا ايضا.. الا اذا حدثت المعجزة وتحقق النصر المبين.. فيد الله وارادته ستكون مع السوريين.
ويا ربنا لا تخيب ظننا..
د. عبدالوهاب الروحاني.