مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

عبد الحبيب سالم مقبل (5)

2020/04/14 الساعة 11:31 صباحاً

كان أسلوب عبد الحبيب سالم في كتابة المقال السياسي جديداً وفريداً على الصحافة اليمنية، فقد استخدم اللغة المباشرة البسيطة من دون تعقيدات ولا استظهار لمعرفة يمتلك ناصيتها في تناول القضايا السياسية المرتبطة بحياة الناس ومشاغلهم، ولم يكن يتوقف عن الحديث المباشر من دون غموض عن كل مسألة تعني المواطنين. كنت أعجب من كمّ الأوراق الممزقة التي يرميها بجوار سريره. حين سألتُه عن السبب، أجاب أن أكثر ما يعانيه هو اختيار عنوان المقال، فيمضي في التفكير فيه وقتاً طويلاً ويكتبه قبل أن يبدأ في الموضوع ذاته، وأن ذلك يستنزف منه جهداً ووقتاً كبيرين. كنتُ أحياناً أطّلع على ما يكتبه قبل أن يتصل بالمحرر في صحيفة "صوت العمال" ليملي عليه المقال، وكان يرى أن ذلك يمنحه فرصة أخيرة للمراجعة قبل النشر.

لم تغرِ ولم تغوِ عبد الحبيب الشهرة التي اكتسبها وجلبت إليه الأنظار، فظلت شخصيته الوديعة والمسالمة ظاهرياً هي البادية على ملامح وجهه الطفولي المبتسم دائماً، لكنه في واقع الحال، كان عنيداً مقاتلاً بقلمه ويعتصر الأحزان داخل قلبه الضعيف وجسده النحيل ليلقي نيابة عن الناس بصخوره في وسط بركة آسنة من الفساد والنفاق السياسيَّيْن، محاولاً في عمر مبكر من حياته أن يخلق رأياً عاماً يتجمّع حول القضايا الكبرى للبلد، بعيداً من الاستقطاب الحزبي وشراء الذمم والتعصبات.

تزامن وصول عبد الحبيب إلى المجلس مع تزايد التوتر بين الرئيس الراحل علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض وتصاعد حدّة الأزمة السياسية. وكما ذكرتُ في حلقة سابقة، فإنّ جوهر الخلاف كان في أسلوب التفكير لكل منهما وطريقة إدارة الدولة، وزادت من الشكوك والمخاوف، سلسلة الاغتيالات واستهداف عددٍ كبيرٍ من القيادات المحسوبة على الحزب الاشتراكي، عسكريين ومدنيين. في الوقت ذاته، حصل المهندس حيدر العطاس على ثقة مجلس النواب في حكومته الثانية بعد الوحدة، وشارك فيها حزب الإصلاح بنائب لرئيس مجلس الوزراء و4 وزراء، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يحصل فيها (الإصلاح) على نصيب رسمي في الحكومات الجمهورية، بعدما كان يشارك بمحسوبين عليه تحت يافطة المؤتمر الشعبي العام.

كان عبد الحبيب ليبرالي التفكير بعيداً من التعصب لأي أيديولوجيا، لكنه كان حتماً أقرب في تفكيره إلى الحزب الاشتراكي من دون أن ينتمي إليه، واحتفظ باستقلالية توجهاته السياسية. ومع بدء انعقاد المجلس، تشكّلت كتلة من المستقلين، ترأسها الراحل الأديب والسياسي النزيه محمد علي الربادي الذي توفي نهاية عام 1993 بعد فترة قصيرة من انتخابه عضواً في المجلس عن إحدى دوائر محافظة إب. كانت الكتلة تضمّ طاهر علي سيف وعلي مغلس ومنصور أحمد سيف وعبد الحبيب وآخرين، وتميزت بنشاط وحيوية أكثر من الأعضاء الملتزمين حزبياً.

سعى عبد الحبيب مع زملاء له في أول مجلس نواب منتخب بعد الوحدة، إلى جعله أداة تشريعية ورقابية تقوم بمهماتها الدستورية، لكنّ وجود الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في رئاسة المجلس كان معرقلاً لكل محاولات تمرير قوانين جديدة، ولعل أبرزها قانون حيازة السلاح، وكان يتصرف بأبوية داخل المجلس، وبحكم تحالفه مع الرئيس الراحل ووجود غالبية، فقد تمكّن بسهولة من ضبط إيقاع المجلس ومنعه من أداء دوره. وحين شعر عبد الحبيب بالعجز لعب الدور الذي كان يؤمله، كانت مقالاته القاسية تعبيراً عن الإحباط الذي أصابه.

في بدايات عام 1994، كنتُ مع عبد الحبيب نتناول الغداء في منزل صديق عزيز (رجل الأعمال) محمد قائد الزعيتري في الحي السياسي بحدة، فاتصل بي اللواء درهم عبده نعمان ليخبرني أنني وعبد الحبيب مدعوان إلى حضور مقيل القات عند الرئيس. كان منزل درهم ملاصقاً لمنزل الزعيتري، فخرجنا بعد الغداء إليه وتحركنا بسيارتين، وكانت المرة الأولى التي أحضر فيها مقيل الرئيس، وكذلك عبد الحبيب.

عند وصولنا إلى مقيل دار الرئاسة، وجدنا الأستاذ عبد العزيز عبد الغني الذي توفي متأثراً بإصابته في حادث مسجد الرئاسة في يونيو 2011، وكان أرفع شخصية من تعز في دائرة السلطة طيلة فترة حكم علي عبدالله صالح (1978– 2012)، إضافةً إلى حضور عددٍ من أبناء تعز ومعهم الأستاذان عبد الآله الشهاري والمرحوم أحمد جبران واللواء علي الشاطر، رئيس دائرة التوجيه المعنوي في القوات المسلحة. اتخذ عبد الحيبب مكاناً له في جوار علي الشاطر في الجهة التي لا يستطيع فيها صالح أن يراه مباشرة، وبرّر ذلك بأنهما زميلان في نقابة الصحافيين، وجلستُ أنا في الجهة المقابلة له.

كان عبد الآله الشهاري معروفاً بسخريته اللاذعة التي تصل أحياناً إلى حدّ التجريح، وكنت أعرفه معرفة وثيقة، فشعرتُ للفور بأن حضوره كان مقصوداً. وبالفعل، ما إن جلسنا حتى سألني عن كيفية الحصول على ما سمّاه (دكان لحقوق الإنسان). ضحك الجميع إلّا عبد الحبيب وأنا. استمر عبد الآله بمسلسل السخرية منّا، وهو ما كنتُ أتوقعه حين رأيته في المقيل، لكني لاحظتُ أن عبد الحبيب انشغل بالحديث مع علي الشاطر من دون اهتمام بمحاولات الاستفزاز.

بعد أقل من ساعة، استأذن عبد الحبيب بالخروج للّحاق بما وصفه بـ"الاجتماع المهم لإحدى اللجان" في مجلس النواب، وهو ما اعتبره صالح ضمناً إهانة له، إذ يفترض أن مجلس الرئيس هو الأكثر أهمية. أعطيتُ عبد الحبيب مفتاح السيارة، وبمجرد خروجه تحوّل المقيل إلى حديث عادي لم يتم التطرق خلاله إلى القضية التي قال لنا اللواء درهم نعمان إنها ستُناقش: قضية تعز.

عند عودتي إلى المنزل وجدتُ عبد الحبيب في المقيل وحده. سألتُه عن سبب خروجه المفاجئ. أجاب بابتسامته الساخرة (صالح أراد إبلاغنا بأنّنا لا نمثل تعز لوحدنا وأنّ هناك شخصيات أخرى لا تقبل بما نفعله وتعترض عليه)، وأنّه تعمّد حضور من يسخر منه ومني. لكنّه فاجأني بأنّ مدير أمن الرئاسة استغرب خروجه المبكر جداً وسأله عن السبب، فردّ عليه بغضب "توقعت أن يكون مقيل الرئيس أكثر جدية وما يحدث فيه لا يليق بمقامه".

في المساء، اتصل بي الأستاذ عبد العزيز عبد الغني وقال لي إن الرئيس انزعج من خروج عبد الحبيب بتلك الصورة، فقلتُ له إنه كان من غير المناسب أن يتحوّل المقيل إلى السخرية بنا. ضحك وردّ بلطفه المعتاد "فوتوها".

خلال الأشهر التي سبقت حرب صيف 1994، ظل عبد الحبيب على تواصل مباشر مع علي سالم البيض، وتواصلت الوساطات لتهدئة الموقف بين الأخير وصالح عبر شخصيات يمنية وخارجية، وفشلت كل الجهود لانتشال البلاد من حالة التعطّل السياسي الذي صاحب اعتكاف البيض في عدن. وفي محاولة أخيرة لإنهاء الأزمة، تم التوصل إلى ما عُرفَ حينها بـ"وثيقة العهد والاتفاق" في 18 يناير (كانون الثاني) 1994، ولكن التوقيع النهائي لم يُنجَز إلّا بعد شهر كامل لأن البيض رفض الحضور إلى صنعاء للتوقيع عليها، ولم يقبل صالح الذهاب إلى عدن. وهكذا، اتُّفق على العاصمة الأردنية، عمان، مكاناً في 20 فبراير (شباط) 1994.