مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

درس الجائحة: السعودية ودول الاعتدال والمستقبل

2020/04/21 الساعة 11:04 صباحاً

استحال فيروس «كورونا» إلى نقطة تاريخية فاصلة على مستوى التحقيب الزمني المجازي وتجاوز حتى متوالية 11 سبتمبر التي دشنتها الولايات المتحدة ما بعد الضربة، ليصبح الحديث عن مرحلة ما «قبل» و«بعد». هذه المجازية في قراءة الأحداث وفق سياقات زمنية هي جزء من الأدوات المستعارة من فلسفة التاريخ، خصوصاً مع هيغل. ورغم رمزيتها فإن تأثيراتها على مستوى التداول السياسي والتلقي الإعلامي عميقة ومتجذرة بسبب محاولة ربط الأحداث التي تبدو فوضوية ومُربكة ومفاجئة و«كورونا» أحدها ضمن سياق تداولي خاص.
أحد أهم دروس «ما بعد» (كورونا) سيكون إعادة فهم الأنظمة السياسية ومفهوم الدولة والسلطة والاستقرار، خصوصاً في مناطق وتجارب لم تقرأ بشكل حيادي بسبب هيمنة التجربة الغربية ومفاهيمها التي تعرضت لانكسارات عميقة حتى قبل «كورونا» على الأقل باتت محل شك في استنساخها واستنباتها في أرض يباب بعيداً عن تربتها وسياقها الخاص، وربما كان استنبات الديمقراطية في تجربة الربيع العربي أحد تلك الانكسارات التي عشناها ثم تلاه إعصار «كورونا» بما حمله من عودة لمفهوم السلطة والدولة على حساب مفاهيم الفردانية والحريات والحقوق الضاغطة على إدارة الشأن الداخلي ضمن سياج الدولة القُطرية الحديثة.
ورغم كل التحديات التي عاشتها السعودية ومعها دول الخليج ودول الاعتدال العربي، فإنه من الإنصاف والعدل رغم كل التشغيب الذي ينوء بحمله محور ودول التشغيب والاستثمار في الخرائب وانهيار الاستقرار، أثبتت المملكة بتعاملها مع تلك الفواصل التاريخية وما بعدها 11 سبتمبر، والربيع العربي، ثم «كورونا» وبينهما أزمات أسعار النفط، أنها نقطة تحول في التاريخ الحديث للمملكة التي قفزت على كل التحديات، وأبانت عن قدرتها المتفردة في دعم مسيرة الاستقرار في المنطقة، عبر سياسة حزم ورفاه محفوفة بتماسك داخلي ما زال عصيّاً على تحليل كثير من الشخصيات التي فشلت في قراءة سر هذا التلاحم بين رأس الهرم السياسي ومكونات الشعب على تنوعها، والتي خرجت في هذا الاحتفال إلى الضوء، معلنة عن تنوع وإقبال على الحياة، كان الاحتفال رمزيته البسيطة في بعدها البصري، إلا أن ما وراء ذلك ما يستحق أن يقال مجدداً، حيث التحولات لا يمكن أن تقرأ في نتائجها المباشرة دون سياقها الطويل والمعقد.
استطاعت المملكة العربية السعودية، وهي لا تدعي لتجربتها الكمال أو التفوّق لكنها تصر على حقها في سيادتها ورؤيتها السياسية، أن تطوي صفحة مهمة من الوصاية التي دشنها الفكر المتطرف، منذ ترسخ مفهوم الدولة ومؤسساتها، عبر انحيازه لمربع المعارضة لمسيرة التنمية والتطور، بشعارات آيديولوجية ذات صبغة دينية متشددة، واليوم يقطف السعوديون ثمرة تحولات ورضات كلفتهم الكثير، إلا أن المآلات ذات الكُلفات الثمينة عادة ما تثمر رغبة ملحة في القطيعة مع مرحلة صعود الإسلام السياسي في المنطقة، وليس في الخليج أو السعودية، وتحوله إلى مشروع «دولة داخل الدولة».
وربما لفهم سياق الكوارث السياسية الكبرى التي حدثت في المنطقة علينا أن نسأل: ماذا لو لم تتحمل الرياض مسؤوليتها الإقليمية والأخلاقية تجاه تلك الفواصل التاريخية التي رفعت سقف التحديات عالياً وصولاً إلى مسألة لا تتهاون فيه القيادة في المملكة وهي الاستقرار؟ العقلانية السعودية السياسية بدأت في استشعار مكمن الخطر مبكراً وربما على طريقة رؤية الإيجابية في ركام الأزمات، كانت الخبرة الطويلة مع معضلة الإرهاب والعنف المسلح والتنظيمات المتطرفة أحد أهم تلك التحديات، التي استطاعت المملكة القفز على أشواكها. في بدايات الربيع العربي كان شعار المملكة هو أنها تقف مع الشعوب في تقرير مصيرها، لكن الانحراف المبكر في مسار الثورة واختطافها وتردي الأوضاع السياسية والانفراد بالمشهد ودخول أطراف إقليمية للعب أدوار إسقاط الدول وما سبق ذلك من تحول في استقطاب الولايات المتحدة للإسلام السياسي على سبيل التجريب والاستبدال، كل ذلك أسهم في إنضاج الموقف السياسي السعودي، وكانت لحظة البحرين صفارة الإنذار للدبلوماسية السعودية لأن تخرج عن صمتها. النجاح السعودي في دعم الاستقرار ليس على مستوى دول الخليج فحسب بل وحتى الدول التي استطاعت تجاوز اختبار «الربيع العربي» الذي كلف الكثير سياسياً، كما هو الحال في قرار حرب الخليج الأولى، لكن مما أسهم في صعود محور الاعتدال رداءة أداء الإسلام السياسي غير المتوقعة والاندفاع نحو محور إيران، وهناك الكثير من المعلومات الخطيرة عن تحالفات مشبوهة كانت تحاك في الخفاء لاستهداف أمن الخليج، وما قيل عن دعم استقرار مصر وباقي دول الربيع العربي تجلى في إدارة ملف اليمن بنجاح كبير رغم الصعوبات، وآخرها منح الفرصة لميليشيا الحوثي على خلفية أزمة «كورونا».
السعودية حافظت على عقلانيتها طول الخط؛ أشادت باحترام رغبة الشعوب، جرّمت «القاعدة» وأخواتها ثم تنظيم «داعش» ولاحقاً الميليشيات الشيعية الوجه الآخر للإرهاب، وفي نفس الوقت لم تسقط ولو لمرة في فخ الاستقطاب الطائفي؛ دعمت الجيش اللبناني وحشدت «حزب الله» و«القاعدة» و«داعش» في ذات المربع، وقفت مع العراق في أكثر فترات هجوم المالكي عليها، وأخيراً ترفض أي تقسيمات سياسية طائفية، وفي الوقت ذاته الذي حمّلت فيه المجتمع الدولي مسؤوليته الأخلاقية في سوريا. هذه المواقف يجمعها خيط واحد وهو دعم استقرار ورفاه المنطقة والشراكة المسؤولة مع جميع الأطراف. ويتم الحديث عادة صحافياً عن تنازع «دولة المركز» بين دول عربية تشكل محور الاعتدال.
أي قراءة واقعية منصفة ستقول إن كفاءة محور الاعتدال بقيادة السعودية رغم التحديات الكبرى لأن مواقفه هي حصيلة واقعية سياسية صرفة قائمة على مبدأ الأصلح للبلاد والعباد.
لاحقاً تطورت الأحداث السياسية العاصفة ليس على مستوى المنطقة ولكن على المستوى العالمي في ظل صعود الشعبوية في الدول الغربية، وتكشير الصين عن أنيابها في مشروع الهيمنة لكن من بوابة اقتصادية وتحالفية، كما ألقى تراجع أسعار النفط بظلال كثيفة على التحديات الاقتصادية التي تم التعامل معها وفق استراتيجية معتادة في التعامل مع التقلبات النفطية من خلال المساهمة في تصحيح الأسعار، والتعامل مع تفاعلات سوق الطاقة في المدى القصير، ورسم رؤية على المدى الطويل تهدف إلى الدفاع عن الأسعار في الأوقات الصعبة والتعامل مع الإنتاج والحصة السوقية بتوازن.
ما مناسبة هذا الحديث الآن، بينما ينشغل السعوديون والعالم بجائحة «كورونا» وتداعياتها؟ الإجابة ببساطة أن علينا أن نتفاءل رغم التحديات ونقيّم التجربة السابقة التي قادتنا إلى هذا التعامل المسؤول مع وباء أربك الكثير من الدول المتقدمة، فالوباء أصاب مؤسسات مترهلة ودولاً تعاني من عدم الاستقرار، لكنه أصاب المملكة وهي ماضية رغم التحديات في تحقيق «رؤية 2030» وتلمس خطاب تنموي على إيقاع نضوب النفط وضرورة إصلاح الرؤية الاقتصادية بمعناها الشامل، ويمكن الجزم بأن ابتلاع هذا الإيقاع السريع لتطور المجتمع وتحولاته من دون رافعة فكرية سينتج لنا شخصيات مأزومة بين التلقي الواعي لقيم العصر الحديث والارتهان لخطاب متشدد أنتج في مرحلة «مأزومة» بدأت في الزوال، لذلك فإن كل الخطابات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مشهدنا العربي والمحلي، ما هي إلا جداول صغيرة لا يمكن أن تتحرك مياهها من دون مياه تجديد تصب في نهر المفاهيم المتطرفة دينية كانت أو سياسية، وربما ما نشهده اليوم من إصرار دول الاستثمار في الإرهاب والعنف والتشغيب السياسي عبر أدواتها الإعلامية الضخمة وهي كل ما تملكه أن تصر على استهداف السعودية تحديداً حتى مع انشغال العالم بأزمة «كورونا» الوباء الذي وإن طغى على كل شيء إلا أن ثمة أوبئة أخرى سياسية ستظل باقية كجزء من أثمان الإصرار على الاستقرار والمستقبل.