مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

عبدالحبيب سالم مقبل (6)

2020/04/21 الساعة 03:17 مساءً

كانت الأوضاع المالية والاقتصادية في شمال اليمن أفضل نسبياً من الأحوال في جنوبه قبل الوحدة، وكانت علاقاته الخارجية مفتوحة على العالم والإقليم، ولكن شكوى الناس كانت تتنامى بسبب طريقة تسيير الإدارة الحكومية وتركيز أهم مفاصلها في منطقة واحدة، وارتفاع معدلات الفساد. وفي المرحلة ذاتها، تراخت قبضة الحزب الاشتراكي على الحكم، نتيجة صراعات الحكم التي لم تتوقف منذ الاستقلال في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 وبلغت ذروتها في 13 يناير (كانون الثاني) 1986، وكان المواطن اليمني في الجنوب ينظر إلى الشمال كنموذج حياة أقل بؤساً.

كانت فرحة الغالبية الساحقة من اليمنيين عارمة في 30 نوفمبر 1989 حين صرح الرئيس السابق علي عبدالله صالح والأمين العام للجنة المركزية للحزب الاشتراكي علي سالم البيض منفردَيْن أنهما اتفقا على قيام وحدة اندماجية يمنية. جنوباً، اعترض وتحفظ عدد من أعضاء المكتب السياسي وأعضاء اللجنة المركزية، بينما اعترضت شمالاً القوى التقليدية من جماعة الإخوان والسلفيين. وكان الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر والأستاذ عبد المجيد الزنداني وأنصارهما الأكثر وضوحاً في الاحتجاج على ما وصفوه بأنه وحدة مع نظام "شيوعي ملحد"، إلّا أنّ المناخ الشعبي الذي ساد في أرجاء اليمن صعّب التراجع عن المضي قدماً في تنفيذ ما صار معروفاً بـ"اتفاق نفق غولدمور" الذي دخله صالح والبيض وخرجا منه متفقَيْن على وحدة اندماجية. هكذا توارى كل المعترضين والمتحفظين في الجنوب، وتمكّن صالح من طمأنة الأحمر والزنداني وتهدئة مخاوفهما.

الحماسة للوحدة

لم أكن واحداً من المتحمسين للوحدة بتلك الطريقة منذ يومها الأول، وزرتُ عدن في يناير 1990 بعد فتح الحدود بين الشطرين بموجب اتفاق 30 نوفمبر 1989 ورفع الحواجز التي كانت عبارة عن براميل تفصل بين المواطنين. وعبّرتُ عن قلقي لعدد من أعضاء المكتب السياسي حينها الذين التقيتُهم للمرة الأولى بواسطة الصديق الدكتور عبدالله عبد الولي، وزير الصحة السابق.
كانت ولادة متعجّلة دغدغت مشاعر الناس من دون إعداد وبلا قواعد راسخة، وكان الدستور الذي اعتُمد غير ملائم للأوضاع التي تغيّرت شمالاً وجنوباً، وسيظل تفسير ما دفع الأمين العام السابق علي سالم البيض إلى اتخاذ قراره منفرداً، غامضاً ويحتاج هو نفسه إلى تبريره.

هكذا أُنجزت الوحدة بطريقة السلق السريع لتنتهي في يوليو (تموز) 1994، على نقيض ما كان الناس يريدونه ويتمنونه. وكان جلياً أن الحزب الاشتراكي لم يكن يعلم مدى التغييرات الجذرية التي حدثت في الشمال أثناء فترة الحكم الأولى لصالح (1978 – 1990)، فكان طبيعياً أن يتحرك المسار بالطريقة التي خطّط لها الرئيس اليمني السابق الذي تمكّن بدهائه وصبره من إنشاء تحالفات مع قوى جنوبية بدت ضعيفة، لكنها أنهكت الحزب الإشتراكي.

وكان تسيير شؤون الدولة في الشمال غير مألوف للوافدين إلى صنعاء، فعلى الرغم من منح الجنوب نصف الوظائف العليا في كل الوزارات والمؤسسات، إلّا أنّ الكادر الأساسي ظل من الشمال، ما خلق فجوة نفسية داخل هياكل الدولة التي كان يقف على نصف عددها وزراء جنوبيون.

مسلسل تصفيات

لتجاوز هذه الارتباك قدّم المهندس حيد العطاس، أول رئيس حكومة لليمن الموحّد "برنامج البناء الوطني والإصلاح السياسي والاقتصادي" للخروج من حالة الفوضى والارتباك التي كانت سائدة حينها، وعلى الرغم من الموافقة عليه في مجلس الوزراء، إلّا أنّه واجه اعتراضات عرقلت تطبيقه.

لم تمرّ أشهر طويلة قبل أن يبدأ مسلسل التصفيات لعدد من أعضاء الحزب الاشتراكي داخل صنعاء وخارجها، وإطلاق قذيفة على منزل الدكتور ياسين سعيد نعمان، أول رئيس لمجلس النواب بعد الوحدة. وارتفع معدل تبادل الاتهامات والحرب الإعلامية بين صالح والبيض، وعلى الرغم من التوصل إلى توقيع وثيقة "العهد والاتفاق" في العاصمة الأردنية كمخرجٍ آمن للأزمة، إلّا أنّ مشاهد الحفل الذي أُقيم في 20 فبراير (شباط) 1994 بالقصر الملكي في العاصمة الأردنية عمان بحضور الملك حسين والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ووزير خارجية سلطنة عمان، وجمع كبير من اليمنيين الذين استضافهم الأردن ليكونوا شهوداً على تلك المناسبة، كانت مؤشراً إلى أن التوقيع تم بضغوط خارجية كبيرة ومن دون نوايا حسنة ولا رغبة في التنفيذ. بعدها، عاد البيض إلى عدن عقب زيارة قصيرة إلى الرياض ورجع صالح إلى صنعاء.

لقاء مع البيض

بعد انتهاء شهر رمضان، اتفقتُ وعبدالحبيب على زيارة عدن للقاء البيض وقيادات الحزب الاشتراكي الذين التحقوا به. مررتُ على عبدالحبيب في تعز واتصلت بالأستاذ البيض وأخبرته أننا سنزوره في اليوم التالي، فقال إنه سينتظرنا على الغداء. غادرنا صباحاً بحيث نصل في وقت قريب من الموعد. كان البيض في حالة نفسية مسترخية ولم يبدُ عليه أي قلق من توتر الأوضاع والتصعيد الإعلامي، وبعد الغداء دعانا إلى المقيل معه، بحضور الأستاذين سالم صالح محمد، عضو مجلس الرئاسة، الأمين العام المساعد للجنة المركزية، ومحمد سعيد عبدالله، عضو المكتب السياسي، وزير الإدارة المحلية. في نهاية المقيل، حضر المرحوم صالح منصر السييلي، محافظ عدن وكان من الذين تحفّظوا علـى قيام الوحدة وكان الودّ بينه وصالح منعدماً، وكان متوتراً ومتطرفاً في انتقاداته لصالح ولم يكن خافياً تأثيره في البيض.

كان البيض واضحاً في حديثه أن عودته إلى صنعاء مشروطة بضمانات أمنية وسياسية، على رأسها خروج كل معسكرات الحرس الجمهوري والفرقة الأولى مدرعة التي كان يقودها الفريق (العقيد حينها) علي محسن الأحمر. في نهاية اللقاء، أخذني البيض مع عبدالحبيب إلى غرفة صغيرة ملحقة وسأل "هل تعتقدون أن هناك مجال لتفادي الانفجار"، لم أتردد بالقول "أستبعد ذلك". وزاد عبدالحبيب "الحرب هي حِرفة القبائل".
ودّعناه ثم ودّعنا سالم صالح ومحمد سعيد عبدالله والسييلي. في السيارة، قال عبدالحبيب "أشعر أن الحرب مقبلة وأن صالح مستعد لها أكثر من البيض". لم أعلّق لأني كنتُ أميل إلى هذا الرأي. افترقنا في تعز وعدتُ إلى صنعاء وبعدها سافرتُ لزيارة الوالد رحمه الله في جنيف نهاية شهر مارس (آذار) 1994.

كنت أتواصل يومياً مع عبدالحبيب ليطلعني على ما يستجدّ، وكان هو في صنعاء يواصل حضور جلسات مجلس النواب ولجانه، وظل يلمّح لي أن التوتر يرتفع وأنه على تواصل مستمر مع البيض ومحمد سعيد عبدالله اللّذين أبديا له قلقهما من احتمالات تحوّل التوتر الإعلامي والسياسي إلى انفجار عسكري.

عدتُ إلى جدة في منتصف شهر أبريل (نيسان) 1994 وكانت الأخبار تتوالى عن معارك محدودة بين قوات الطرفين في أبين وعمران إلى أن تحوّلت إلى حرب شاملة، استخدم فيها الطرفان كل ما تبقّى في مخازنهما.

اتصلتُ بعبدالحبيب الذي كان في تعز، فأبلغني أنه انتهى للتو من الحديث مع علي البيض في عدن الذي قال له "إنهم يدفعوننا نحو الحرب". كان جوابي "غادر تعز فوراً إلى القرية".