مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

عبد الحبيب سالم مقبل (8)

2020/05/07 الساعة 01:56 مساءً

خلال الأشهر التي تلت دخول عدن في 7 يوليو (تموز) 1994 جرت عملية احتجاز للعديد من المعارضين، خصوصاً القريبين من الحزب الاشتراكي، وكان الكثير منهم قد اختفى خلال أشهر الحرب، في الفترة من أبريل (نيسان) إلى يوليو من العام نفسه، خشية الملاحقة والاعتقال، وتمت عملية منظمة استمرت لسنوات لاستبعاد كل الشخصيات التي عارضت اللجوء إلى السلاح، ورغم بقاء كثير من أعضاء الحزب الاشتراكي في صنعاء واعتراضهم على قرار علي سالم البيض بإعلان الانفصال في 22 مايو (أيار) 1994، فإن ذلك لم يشفع لهم عند السلطة التي تعاملت مع نتائج الحرب بعيداً عن روح التسامح، وتمت مصادرة منازل القياديين والكثير من أعضاء الحزب، إضافة إلى حجز كل أمواله ومقاره على امتداد اليمن.

لا أتذكر التاريخ على وجه الدقة، لكني فوجئت باتصال في المساء من عبد الحبيب بأنه وصل صنعاء، وكان الأمر مبعث سعادة غامرة إذ أدركت من الاتصال أنه صار آمناً بما فيه الكفاية كي يعود إلى العاصمة، واتفقنا على أن يذهب للراحة وأن نلتقي صباح اليوم التالي.

في صباح اليوم التالي مررت على عبد الحبيب إلى الفندق الذي سكن به، وأخبرني أن رجل الأعمال الراحل توفيق عبد الرحيم، تواصل معه إلى قريته وأخبره بأن الرئيس الراحل علي عبد الله صالح أعطاه الأمان بأن يعود إلى مدينة تعز، وهو ما حدث. بعد وصوله إلى هناك ذهب مباشرة إلى مقر جهاز الأمن السياسي، ومن هناك غادر مع أحد كبار ضباط الجهاز إلى صنعاء.

وصل عبد الحبيب إلى مقر الجهاز، حيث التقاه رئيسه اللواء غالب القمش، وهو رغم حساسية الموقع كان يتمتع ببساطة في التعامل، وأبلغه بأنهما سيتوجهان معاً إلى منزل الرئيس. قال لي عبد الحبيب إن اللقاء لم يكن عدائياً رغم أن صالح حاول استفزازه بالحديث عن هروب البيض وقيادات الاشتراكي، ولم يحاول عبد الحبيب الدخول في جدلٍ، لأنه كان بطبيعته قليل الكلام وخجولاً عند الحديث المباشر.

واصل عبد الحبيب حضور جلسات مجلس النواب لأيام قليلة شعر فيها بأن الجو كان عدائياً من أعضاء المؤتمر الشعبي العام وحزب التجمع اليمني للإصلاح، كما أن الأماكن التي كنا نرتادها قبل الحرب للمقيل صارت تتهرب من استقبالنا، وكان المكان الوحيد الذي نلجأ إليه هو منزل القاضي الجليل الراحل عبد الجبار المجاهد، وهو من كبار رجالات تعز وأنبلهم وأكرمهم على الإطلاق، وقد تعرض بسببنا إلى مضايقات كثيرة من الرئيس صالح بلغت حد تجاهل نهب أرضه وتعطيل مصنعه في صنعاء، ما أفقده الكثير من ثروته لكنه لم ينهزم ولم يخضع لكل الضغوطات التي تعرض لها، وظل محتفظاً بكرامته معتزاً بتاريخه وتاريخ أسرته، وكان نقيضاً للعديد من أبناء تعز خصوصاً الذين تنازلوا عن الكثير مقابل الاقتراب من الرئيس وما يهبه لهم من الامتيازات كي يصبحوا أدوات له في تكريس جعل تعز ممثلة بقيادات هزيلة.

لم يكن عبد الحبيب في حالة نفسية مريحة تسمح له بالبقاء طويلاً في صنعاء، حيث كان يشعر بأجواء خانقة من كبت الحريات والملاحقات والاستفزاز داخل قاعة مجلس النواب وخارجه، وكانت تلك المرحلة بداية نفوره من حضور الجلسات.

لكن أكثر ما أثر في نفسيته هو تعمد رئيس المجلس، الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، وأحد نوابه محمد الخادم الوجيه، قمع المعارضين وعدم إتاحة الفرصة لهم للتعبير عن مواقفهم السياسية، وبلغ الأمر منع الراحل علي صالح عباد (مقبل) أحد نواب رئيس المجلس والأمين العام للحزب الاشتراكي من ترؤس أي جلسة في حال غياب الشيخ الأحمر.

عاد عبد الحبيب إلى تعز لترتيب أوضاع أسرته في شقته الصغيرة، ورجع إلى صنعاء، ولاحظت عليه القلق من القادم وعدم ارتياحه للقيام بمهام عضويته، وهكذا بدأ بقضاء أوقات أطول في تعز مع زوجته وبناته وابنه وائل، ثم عاد إلى صنعاء لنسافر معاً إلى باريس ليبتعد عن الجو الذي وصفه بالخانق، ولم يعد ينتظم في مقالاته كما كان في السابق بعد إغلاق "صوت العمّال"، لكنه بدأ ينشرها في صحيفة "الشورى" التابعة لاتحاد القوى الشعبية، الذي كان يتزعمه الراحل ابراهيم بن علي بن عبدالله الوزير، وكانت مساحة الحرية فيها كبيرة مقارنة بالصحف التي كانت تواصل نشاطها. وكانت "الشورى" تستكتب العديد من الأدباء على صفحاتها بعد أن تقلصت المساحات المتاحة لهم بعد الحرب.

كان أداء مجلس النواب بعد الحرب مخيباً للآمال، ولا يؤدي أياً من وظائفه الدستورية، واقتنع أن المجلس لم يعد له أي دور سياسي، وأن الأعضاء ليسوا أكثر من موظفين برواتب عالية تُستنزف من المال العام من دون مردود ولا يقومون بأي مهمة تشريعية ولا رقابية، وأنه بحكم الأغلبية التي يتمتع بها صالح والأحمر داخله صار أداة قاسية بيديهما لقمع الأصوات المعارضة للنظام داخل المجلس وخارجه.

حاول عبد الحبيب إقناع عددٍ من الأعضاء اتخاذ موقفٍ جماعي ضد تصرفات عبد الله بن حسين الأحمر ونائبه محمد الخادم الوجيه، لكن الكل أحجم إما خشية فقدان الامتيازات التي يحصدونها تحت دعوى تمثيل المواطنين أو خوفاً من غضب الرئيس والشيخ، وتنامى حنقه وشعوره بأنه غير قادر على تقديم أي خدمة لناخبيه أولاً وللبلاد، فصب غضبه على الأحمر في سلسلة مقالات بعنوان "شيخ البيعة".

أتذكر تماماً أنه اتصل بي وقال إن صحيفة "الشورى" امتنعت عن نشر المقال الأول لأنه كان يتعرض فيه إلى علاقة الشيخ عبدالله بالسعودية وتأثير ذلك على طبيعة العلاقة بين البلدين، وأن الأحمر كان مؤمناً بأن أبواب المسؤولين السعوديين لا يجوز أن تفتح إلا له وبه وعبره، وأرسل لي عبد الحبيب المسودة عبر الفاكس، وكانت ثلاث حلقات مكتوبة بخط يده استعرض فيها تاريخ العلاقات بين البلدين، وكيف صار الشيخ الأحمر يعتبرها ساحته الخاصة ونطاقاً لا يقترب منه أحد، وظل يقاوم أي محاولة لشخصيات أخرى لفتح أبواب بعيدة عنه مع الدولة الجارة، وفي الواقع فإن الرئيس علي عبد الله صالح كان واقعاً هو الآخر تحت تأثير هذا الوهم.

توليت طباعة الحلقات الثلاث من "شيخ البيعة" على جهازي الخاص، وبحثت عن صحيفة تتولى نشرها، ولم تكن الخيارات كثيرة، فقد اتصلت بصديقي الراحل أحمد طربوش رئيس تحرير صحيفة "الوحدوي" الناطقة باسم التنظيم الشعبي الوحدوي الناصري، وقلت له إنني سأمر عليه لأمرٍ عاجل.

كنت قد تعرفت على أحمد طربوش أثناء الدراسة في القاهرة، وهو شخص نبيل صلب وشجاع، وكانت الصحيفة التي يرأس تحريرها من الصحف القليلة التي سمح باستمرار نشاطها بعد الحرب، لأن التنظيم الناصري وقف ضد إعلان الانفصال في 22 مايو (أيار) 1994.