مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

في يوم المعلم :اثنا وعشرون وسيله للتعليم للمعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم

2020/10/05 الساعة 09:22 مساءً

مصداق قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة:2].

 

ويجدر التنبيه عند النظر في استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم للوسائل التعليمية في تعليم أصحابه رضي الله عنهم، الحقائق التالية:

أ- أن البيئة في عهده صلى الله عليه وسلم لم تكن لتساعد على توفير الكثير من وسائل التعليم.

ب- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب.

ج- أن الصحابة -رضي الله عنهم- أميون في معظمهم.

 

د- أن الوسائل والأساليب التي ستتناولها هنا إنما هي على سبيل التمثيل لا الحصر، حيث إن كتب السنة تزخر بعدد وافر منها.

 

هـ- أن العبرة في هذا الصدد ليس بعدد الوسائل التي استعان بها الرسول صلى الله عليه وسلم في عملية التعليم، وإنما بتقرير المبدأ والفكرة، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم مشرع، ويكفي استخدامه وسائل التعليم لمرة واحدة، ليكون في ذلك أسوة وهديًا للمربين في كل العصور.

 

السنة تؤكد على أنه صلى الله عليه وسلم معلم هاد:

هناك نصوص في السنة كثيرة، تدل على كونه صلى الله عليه وسلم معلماً يهدي للحق والخير، وهذه النصوص تدل فيما تدل عليه على فضل ومكانة المعلم، فمن ذلك:

1- ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه صلى الله عليه وسلم قال لها " إن الله لم يبعثني معنتاً، ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً، ميسراً " [مسلم].

 

2- وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرأون القرآن ويدعون الله والأخرى يتعلمون ويعلمون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل على خير، هؤلاء يقرأون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلمون، وإنما بعثت معلماً " فجلس معهم.[ ابن ماجة].

 

3- وعن معاوية بن الحكم السلمي- رضي الله عنه- قال بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني سكت، فلما صلى رسول صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن " [مسلم].

 

قال النووي - رحمه الله - معلقاً على هذا الحديث: (فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه) [شرح النووي على صحيح مسلم ج5/ ص20].

 

الواقع يؤكد على أنه صلى الله عليه وسلم معلم وأي معلم:

إن الواقع التاريخي والبيئي يؤكد مدى القدرة التعليمة الهائلة التي تحلى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقد نشأ في بيئة أبعد ما تكون عن المدنية والحضارة، وقد لخصها القرآن بوصف الأمية فقال تعالى الله ممتناً ومتفضلاً: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة:2] لكن تعالوا ننظر في حال هذه البيئة التي لم يتغير فيها شيء إلا بعثت محمد صلى الله عليه وسلم فحدث هذا الانقلاب الحضاري الهائل، لتنتشر المدنية الإسلامية في كل مكان، وتدعم مسيرة الإنسان أياً كان، ونماذج التاريخ الإسلامي حاضرة بقوة من عمالقة الصحابة ومن بعدهم.

 

من ثمارهم تعرفونهم، فكيف كان الصحابة قبل محمد صلى الله عليه وسلم وكيف أصبحوا بعد أن تلقوا الخير والحق على يديه صلى الله عليه وسلم.

 

يقول القرافي رحمه الله: (لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه، لكَفَوه لإثبات نبوته) [ الفروق: آخر الفرق:242].

 

إن النماذج الفذة - من الصحابة ومن بعدهم- التي أبهرت العالم، وخدمت البشرية، وقدمت للحضارة الخير الكثير، يجمعها قاسم مشترك، وهو كونها قد تخرجت - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

فماذا اعتمدت هذه المدرسة من أنظمة وطرق وإجراءات؛ لتحقق لاحقاً هذا النجاح المدوي والثابت؟

أولاً: مكافحته صلى الله عليه وسلم للأمية والحض على التعلم:

1- ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه "[ مسلم ].

 

2- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم "[الترمذي ].

 

3- وعن عبد الرحمن بن أبزى - رضي الله عنه - قال: (خطب رسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه، ثم على طوائف من المسلمين خيراً، ثم قال: " ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم؟ ولا يعلمونهم؟ ولا يعظونهم؟ ولا يأمرونهم؟ ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم؟ ولا يتفقهون؟ ولا يتعظون، والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم.

 

وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفقهون، ويتفطنون" ثم نزل فقال قوم: من ترونه عني بهؤلاء قالوا: نراه عنى الأشعريين، هم قوم فقهاء، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذكرت قوماً بخير، وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال:" ليعلمن قوم جيرانهم، وليفقهنهم، وليفطننهم، وليأمرنهم، ولينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفطنون، ويتفقهون، أو لأعاجلنهم في الدنيا " فقالوا: يا رسول الله! أنفطن غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم، فأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضاً، فقالوا: أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة، ليفقهونهم، ويعلمونهم، ويفطنونهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79][الهيثمي:مجمع الزوائد:1/ 164].

 

قال الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله -: (إن هذا الموقف العظيم في اعتبار التقصير في التعليم والتعلم جريمة اجتماعية، يستحث مرتكبها العقوبة الدنيوية، موقف لم يروِ التاريخ له مثيلاً في تقديس العلم، قبل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده ) [المدخل الفقهي:2/ 641].

 

4- وفي أسارى بدر نجده صلى الله عليه وسلم قد منح فقراء المشركين الفكاك من الأسر مقابل أن يعلم المتعلم منهم الأميين من المسلمين.

 

ثانياً: تعوذه صلى الله عليه وسلم من العلم الذي لا ينفع وفي هذا تحذير منه:

فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها "[مسلم].

 

فكم من إنسان دفع من وقته وعمره الثمين وبذل المال والجهد الكبير في علم لا حاجة له، أو أمته به، فخسر وقتاً وجهداً ومالاً فيما لا فائدة فيه.

 

ثالثاً: شخصيته التعليمية:

كان لينا رحيماً، يحب اليسر، والرفق بالمتعلم، حريص عليه، يبذل العلم والخير في كل وقت ومناسبة، وبكل طريقة وأسلوب ممكن؛ تحقيقاً لقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [ التوبة:128].

 

قال ابن كثير- رحمه الله -: (أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته، ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال "بعثت بالحنيفية السمحة" ) [تفسير ابن كثير ج2/ ص404].

 

قال الشنقيطي - رحمه الله -: (هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال وغاية شفقته علينا هو أعظم منن الله تعالى وأجزل نعمه علينا) [أضواء البيان:2/ 149].

 

وعن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه. قال:" ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم - وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها - وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم " [البخاري].

 

وذكر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- بعضاً من شمائله فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه راجياً، ولا يخيب فيه.

 

قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، ومما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه.

 

إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت، تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له؛ حتى يفرغ.

 

حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون، ويتعجب مما يتعجبون منه.

ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته؛ حتى إن كان أصحابه ليستجلبوهم.

 

ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجور، فيقطعه بنهي أو قيام )[شمائل الترمذي:221-224].

 

رابعاً: أساليبه وطرقه صلى الله عليه وسلم في التعليم:

كان يختار في تعليمه أفضل الطرق، وأحسن الأساليب، وأوقعها في نفس المتلقي، وأقربها إلى فهمه وعقله، وأشدها تثبيتاً للعلم في ذهن المخاطب، وفيما يلي نماذج من أساليبه التعليمة التي ساهمت في إخراج تلك النماذج الباهرة الشامخة:

الأسلوب الأول: التعليم بالقدوة الحسنة:

إن التعليم بالفعل والعمل أقوى وأوقع في النفس، وأعون على فهم المراد، وأدعى إلى الحفظ والرسوخ، من التعليم بالقول والبيان.

 

ويشهد لهذا قصة صلح الحديبية، فحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يتحللوا من إحرامهم وينحروا هديهم فقال لهم: " قوموا، فانحروا، ثم احلقوا " فتوانوا في ذلك، فدخل على زوجه أم سلمة - رضي الله عنها- فأشارت عليه بأن يحلق رأسه، وينحر هديه، فإنهم لا محالة يقتدون به ففعل، فكان كما ذكرت.

 

لذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر بشيء عمل به أولاً، ثم تأسى به الناس بعده فهو الأسوة الحسنة والقدوة لكل خير: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾ [الأحزاب:21].

 

يقول الجُلندي - رضي الله عنه - ملك عمان في سبب إسلامه: (لقد دلني على هذا النبي الأمي إنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يَغلِب فلا يبطر، ويُغلَب فلا يهجر، وأنه يفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي) [ابن حجر:الإصابة:1/ 538].

 

ومن هذا النموذج نذكر ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب- رجل من أهل المدينة - فرأى في قبلة المسجد نخامة، فحكها بالعرجون.

 

ثم أقبل علينا فقال: " أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قال: فخشعنا، ثم قال:" أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قال: فخشعنا، ثم قال: " أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قلنا: لا أينا يا رسول الله. قال: " فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا " ثم طوى ثوبه بعضه على بعض - وفي رواية أبي داود: ووضع ثوبه على فيه ثم دلكه - ثم قال: " أروني عبيراً - نوع من الطيب- " فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوق في راحته، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة.

 

فقال جابر: فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم).

 

وعن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: " صل معنا هذين يعني اليومين " فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها فأنعَمَ أن يبرد بها - أي أطال الإبراد - وصلى العصر والشمس مرتفعة، أخَّرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: " أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: " وقت صلاتكم بين ما رأيتم " [مسلم ].

 

قال النووي - رحمه الله -: (وفيه البيان بالفعل، فإنه أبلغ في الإيضاح، والفعل تعم فائدته السائل وغيره) [شرح النووي على صحيح مسلم ج5/ ص114].

 

وعن معاذ بن عبد الرحمن أن بن أبان أخبره قال: أتيت عثمان بن عفان بطهور وهو جالس على المقاعد، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء، ثم قال: " من توضأ مثل هذا الوضوء، ثم أتى المسجد،فركع ركعتين، ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه " قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تغتروا "[البخاري].

 

الأسلوب الثاني: التدرج في التعليم:

فكان يقدم الأهم فالأهم، ويعلم شيئاً فشيئاً، ليكون أقرب للفهم، وأثبت للحفظ، إذ أن إلقاء كل العلوم على المتعلم دفعة واحدة تسبب خسارة العلم كله.

 

فعن جندب بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة - أي: قاربنا البلوغ- فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً " [ابن ماجه].

صحيح البخاري ج2/ ص 544

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: " إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب "[البخاري].

 

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن؛ حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن "[الطبري في تفسيره:1/ 35].

 

الأسلوب الثالث: الاعتدال والبعد عن الإملال:

فكان يتعهد أصحابه، وأحوالهم، وأوضاعهم، حين تعليمهم؛ حتى لا يدخل الملل إلى نفوسهم، فيستنكفوا عن التعلم، ويراعي في ذلك القصد والاعتدال.

 

قال ابن حجر- رحمه الله -: (تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط وكانت عاقبته غالبا الازدياد بخلاف ضده) [فتح الباري ج1/ ص163].

 

وقد بوب البخاري في صحيحه لهذا الأسلوب التعليمي بقوله: (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم؛ كي لا ينفروا) وذكر حديث ابن مسعود- رضي الله عنه - قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا ).

 

وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".

 

وعن أبي وائل قال: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟! قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا )[البخاري].

 

الأسلوب الرابع: مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين:

إن الناس كما هو معلوم ليسوا على طبقة واحدة في الفهم والإدراك، فبينهم فروق ظاهرة، لذا كان صلى الله عليه وسلم يخاطب كل واحد بقدر فهمه، وبما يتناسب مع وضعه، وطبيعته.

 

وقد بوب البخاري في صحيحه لهذا الأسلوب التعليمي بقوله: (باب: من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا) وذكر حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: يا معاذ بن جبل. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا قال: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقاً من قلبه، إلا حرمه الله على النار " قال يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس، فيستبشروا؟ قال:" إذا يتكلوا " وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.

 

قال الحافظ ابن رجب: (قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا، أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس، لئلا يقصُر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ لم يذدد إلى اجتهادا في العمل وخشية لله عز وجل، فإما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالاً على ظاهر هذا الخبر ).

 

وقال ابن حجر - رحمه الله -: (وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود: (ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) رواه مسلم.

 

وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي.

 

وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب) [فتح الباري ج1/ ص225].

 

قال الغزالي - رحمه الله -: (من ظائف المعلم أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله، فينفره، أو يُخَبطَ عليه عقله، اقتداء في ذلك بسيد البشر فقد كان يراعي ذلك في تعليمه، وتحديثه، ووعظه، فليَبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقلُّ بفهمها )[ الإحياء: 1/ 57-58].

 

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب، فقال: يا رسول الله أقبل وأنا صائم؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: أقبل وأنا صائم؟ قال: نعم. قال: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه " [مسند أحمد بن حنبل].

 

ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصى أناس سألوه الوصية بوصايا مختلفة، لكنها تتناسب وحال كل واحد منهم، فمن ذلك:

1- عن أبي ذر-رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: " اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" [مسند أحمد ].

 

2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه - أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال:" لا تغضب " فردد مراراً قال: " لا تغضب " [البخاري].

 

3- عن سفيان بن عبد الله الثقفي- رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: " قل آمنت بالله، فاستقم "[مسلم].

 

4- عن عبد الله بن بسر- رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: " لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله " [الترمذي].

 

الأسلوب الخامس: التعليم بالحوار والمساءلة:

فأسلوب الحوار والمساءلة، يثير انتباه السامعين ويشوق النفوس للحصول على الجواب، ويحرض عقولهم على إعمال الفكر للوصول إلى الجواب، فإن لم يجيبوا وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك أدعى لحفظ المعلومة ورسوخها في نفوسهم.

 

فعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل ميه كل يوم خمس مرات، هل يبقي من درنه شيء؟" قالوا: لا يبقي من درنه شيئ. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" [البخاري].

 

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تدرون من المسلم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده" قال: " تدرون من المؤمن؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السوء فاجتنبه " [مسند أحمد ].

 

أما الحوار فيعد حديث جبريل في بيان أركان الإيمان أشهر الأحاديث في ذلك، فعن عمر ابن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد؛ حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن إمارتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق، فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم. [مسلم].

 

قال القاضي عياض - رحمه الله -: (هذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه إذ لا يشذ شيء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة) [شرح النووي على صحيح مسلم ج1/ ص158].

 

الأسلوب السادس: التعليم بالمحادثة والموازنة العقلية:

فكان يستخدم المحاكمة العقلية على طريقة السؤال والجواب؛ لقلع الباطل من نفس مستحسنه، أو لترسيخ الحق في قلب مستبعده أو مستغربه.

 

من ذلك ما رواه أحمد عن أبي أمامة قال: أن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: أدنه، فدنا منه قريبا قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم؟ قال: فوضع يده عليه، وقال:" اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه " فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.

 

وعند البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء فقال: " يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله قال: " تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل " قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم " قلن: بلى قال: " فذلك من نقصان دينها ".

 

الأسلوب السابع: استخدام السؤال للكشف عن الذكاء والقدرة العقلية:

فكان يسأل الصحابة؛ ليثير فطنتهم ويحرك ذكائهم، ويختبر ما عندهم من علم ومعرفة.

 

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة. [البخاري].

 

الأسلوب الثامن: التعليم بالمقايسة والتمثيل:

فكان يقيس لأصحابه الأحكام ويعللها لهم إذا اشتبهت عليهم مسالكها، وغمض عليهم حكمها، فتتضح لهم الأحكام والمقاصد الشرعية.

 

فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج؛ حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال:" نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء "[البخاري].

 

وعن أبي ذر أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة " قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً " [مسلم].

 

الأسلوب التاسع: التعليم بضرب المثال:

إن الاستعانة بما يشاهده الناس ويقع تحت متناول حواسهم أسلوب يعين أكثر على الفهم، ويسهل عملية التعليم بشكل أسرع، ويساعد على فهم المراد.

 

فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر "[البخاري].

 

وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك، ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة " [البخاري].

 

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً "[البخاري].

 

الأسلوب العاشر: الإشارة بالأصابع:

ورد في أحاديث كثيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم أصابعه عند تعليمه أصحابه رضي الله عنهم في إشارات تعليمية هادفة، فتارة يستخدم إصبعًا واحدًا، وتارة أخرى يستخدم إصبعين، وثالثة يستخدم ثلاث أصابع، وحينًا يشير بأربع، وحينًا آخر يستخدم أصابعه الخمس. وفي كل مرة تحقق إشارته هدفًا تعليميًا من زيادة وضوح معنى، إلى إثارة انتباه، إلى ترسيخ فكرة. ومن تلك الأحاديث ما يلي:

1- "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعلُ أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بالسبابة - في اليم فلينظر بم ترجع "ويحيى أحد الراوة، و(اليم) هو البحر.

 

ففي هذا الحديث نجد أن الرسول يستخدم وسيلة الإشارة الحسية التي يرتبط فيها المفهوم المجرد بشيء ملموس وهو هنا إصبع. ولا شك أن ذلك أشد وقعــًا في نفوس الحاضرين من مجرد القول: إن الدنيا لا تساوي شيئًا بالنسبة للآخرة.

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه " إن هذه الحركة منه، أبلغ في إيصال المعنى المقصود إلى أذهان الحاضرين من مجرد القول: إن من عال بنتين حتى تبلغا يكون قريبًا مني يوم القيامة.

 

3- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:" بعثت أنا والساعة كهذه من هذه; أو كهاتين وقرن بين السبابة والوسطى " فإشارته بإصبعيه لبيان قرب مبعثه من قيام الساعة لها من الوضوح والوقع والثبات في الأذهان أشد من القول: بعثت قرب الساعة.

 

الأسلوب الحادي عشر: استخدام اليدين:

ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم يديه الشريفتين في شرح بعض المعاني التعليمية المجردة للصحابة رضي الله عنهم، فحيناً يستخدمها للكناية عن إفاضة الماء على الرأس، وللتفريق بين الفجر الصادق والفجر الكاذب حينًا آخر، كما يشير بهما إلى الجهة تارة، وللدلالة على عدد أيام الشهر تارة أخرى. ومن ذلك الأحاديث الشريفة الآتية:

أخرج البخاري في كتاب الغسل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا، وأشار بيديه كلتيهما "أي أشار أنه يأخذ الماء بكفيه معًا.

 

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين ".

 

قال النووي: (وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل هذا).

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين والرجلين وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب ولا الشعر".

 

الأسلوب الثاني عشر: استخدام وسائل الإيضاح المتاحة:

فاستخدم الحصى:

فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما هذه وهذه؟ ورمى بحصاتين. قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذاك الأمل، وهذاك الأجل ".

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات، فوضع واحدة، ثم وضع أخرى بين يديه، ورمى بالثالثة، فقال: هذا ابن آدم، وهذا أجله، وذاك أمله ".

 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفًا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا. لمسجد المدينة.

 

قال النووي في شرح هذا الحديث: (وأما أخذه الحصباء وضربه في الأرض، فالمراد به المبالغة في الإيضاح لبيان أنه مسجد المدينة. والحصباء بالمد الحصى الصغار ).

 

واستخدم الرسم على الأرض:

ورد في السنة المطهرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لجأ في بعض المواقف التعليمية إلى استخدام الرسم في تعليم أصحابه رضي الله عنهم لتوضيح بعض المعاني المجردة لهم. وهذه وسيلة تعليـمية ناجحة، إذ من المسلمات لدى التربويين في الوقت الراهن أنه كلما زاد عدد الحواس التي تشترك في الموقف التعليمي، زادت فرص الإدراك والفهم، كما أن المتعلم يحتفظ بأثر التعليم فترة أطول. وفي هذا الصدد يقول الصباغ: (أما الرسم فإنه أسلوب تعليمي يجلو الأمر ويوضحه أتم توضيح، وإنه لمستوى رفيع في التوجيه والإبلاغ أن يكون الرسم أداة في قوم أميين ).

 

فعن عبد الله رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعاً، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وأن أخطأه هذا نهشه هذا "[البخاري].

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خط رسول الله في الأرض أربعة خطوط، قال: تدرون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم -امرأة فرعون - ومريم ابنة عمران رضي الله عنهن أجمعين "[أحمد].

 

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيمًا، قال: ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: هـذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].

 

واستخدم العروض أو التوضيحات العملية:

فهناك بعض الأعمال والمهارات الحركية التي تحتاج إلى تدريب عملي عليها لإتقانها على الوجه المطلوب، ولا يكفي فيها الشرح النظري، وهو ما أعنيه بالعروض أو التوضيحات العملية.

 

ولذلك نجد أن الرسول يقوم بتوضيح بعض الأعمال والشعائر توضيحًا عمليًا، وذلك مثل البيان العملي لأوقات الصلاة لمن سأل عنها، وقوله عقب ذلك: (وقت صلاتكم بين ما رأيتم ).

 

وقيامه بالوضوء أمام الصحابة، ثم قوله: (من توضأ وضوئي هذا).

 

وكذلك أداؤه الصلاة على المنبر، وقوله معللاً ذلك: (يا أيها الناس، إني صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي).

 

وكقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: (صلوا كما رأيتموني أصلي ).

 

وكقوله وهو يؤدي مناسك الحج: (لتأخذوا مناسككم ). ونحو ذلك من المهـارات الحركية التي أداها أمام الصحابة رضي الله عنهم.

 

صورة من صور التدريب المهني:

أخرج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنح حتى أريك، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بين الجلد واللحم، فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، وقال: يا غلام هكذا فاسلخ، ثم مضى وصلى للناس ولم يتوضأ) والدحس: هو إدخال اليد بين جلد الشاة ولحمها.

 

واستخدم المجسمات في التعليم:

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعْن منه، فيُسرِّبُهُنّ إلي فيلعبن معي.

 

يقول الحافظ بن حجر: (واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن. وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن).

 

وما أشار إليه الحافظ بن حجر رحمه الله في تعليله لجواز بيع اللعب للبنات، يعد من أحدث الاتجاهات التربوية في الوقت الراهن، وأعني به التعلم عن طريق اللعب، حيث أجريت بحوث كثيرة حول أهمية وأثر الألعاب التربوية في تعليم الطلبة. وأظهرت هذه البحوث أن الألعاب التربوية وسائل تعليمية فعالة وقوية التأثير في تغيير سلوك المتعلم واتجاهه، وذلك باكتسابه معارف ومهارات دقيقة يواجهها في واقع حياته العملية، ومن ثم في اتجاهه نحو الهيئات والوسائل التي يتفاعل معها.

ومن أهم فوائد الألعاب التربوية أنها تعمل على إشراك المتعلم إيجابيًا في عملية التعلم، أكثرمن أية وسيلة أخرى مشابهة، لأنه يستخدم قدراته في أثناء اللعب. ولذلك تعتبر الألعاب التربوية وسائل فعالة لقياس اتجاهات المتعلمين وتنميتها وتعزيزها.

 

الأسلوب الثالث عشر: الجمع بين القول والإشارة في التعليم:

لتجتمع حاستي السمع والبصر في التلقي عند المخاطب وهذا يزيد في تركيزه وانتباهه، لتترسخ المعلومة لديه.

 

فعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وشبك أصابعه "[البخاري].

 

وفي حديث الثلاثة الذين تكلموا في المهد وفيه: (. كانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه.

 

قال أبو هريرة كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه.[البخاري].

 

الأسلوب الرابع عشر: استخدام الأشياء الحقيقية:

جاء في جملة من الأحاديث الشريفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم الأشياء الحقيقية في تعليم أصحابه مثل الحرير والذهب والوبر ونحوها. ومن المسلم به تربويًا أن التعليم باستخدام الأشياء الحقيقية أشد وضوحًا وأبقى من التعليم اللفظي المجرد.

 

ومن ذلك الأحاديث الآتية:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إحدى يديه ثوب من حرير، وفي الأخرى ذهب، فقال: " إن هذين محرمٌ على ذكور أمتي حلٌ لإناثهم".

 

ولا شك أن رفع الرسول للحرير والذهب في يديه الشريفتين، أقوى بيانًا، وأعمق أثرًا من القول: إن الذهب والحرير محرمان.

 

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين إلى جنب بعير من المقاسم، ثم تناول شيئًا من البعير، فأخذ منه قَـرَدَة، يعني وَبَـرة، فجعل بين إصبعيه، ثم قال: " يا أيها الناس، إن هذا من غنائمكم، أدوا الخيط والمخيط فما فوق ذلك فما دون ذلك، فإن الغُلُول عارٌ على أهله يوم القيامة وشنار ونار ".

 

فههنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين للمسلمين شناعة الغلول من الغنائم، مهما كان الشيء المغلول تافهًا. غير أنه لم يكتف بالكلام وحده، بل لجأ إلى استخدام الأشياء الحقيقية وسيلة لتوضيح المقصود، فأخذ بين إصبعيه وبرة من جلد البعير، مبلغًا إياهم أن ذلك -رغم تفاهته - معدود من الغنائم. ولا شك أن ذلك أشد وضوحًا، وأجلى بلاغًا من الكلام وحده.

 

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كَنَفَتَه، فمر بجدي أسك -أي صغير الأذنين- ميت، فتناوله فأخذه بأذنه، ثم قال: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ".

 

فانظر يا أخي القارئ كيف بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم المفهوم الذي أراد إيصاله إلى أصحابه مستخدمًا هذه الوسيلة العجيبة من الوسائل المعينة.

 

إنها وسيلة يراها الناس، ويمرون بها كثيرًا، ولكن النبي أراد أن يستخدمها أداة لتوضيح قيمة الدنيا التي يتهافت الناس، بل ويقتتلون عليها. إن هذا الدرس في تفاهة الدنيا عند الله -جوار الآخرة- لا يمكن أن يمحى من الذهن أو ينسى من الذاكرة، لارتباطه بالجدي الأسك الميت، وبمسلك النبي، وهو يأخذ بأذنه ويسألهم: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ ويجيبون، ويسألهم حتى يقرر لهم الحقيقة المرادة في النهاية: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم.

 

الأسلوب الخامس عشر: الابتداء بالإفادة قبل السؤال عنها:

خاصة في الأمور المهمة التي لا ينتبه لها كل واحد، فكان صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة جواب الشبهة قبل حدوثها، حرصاً منه أن تقع في النفوس ولا تستقر فيها، أو تشوش عليه دينه وأمره.

 

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي الشيطان أحدكم، فيقول من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته "[البخاري].

 

الأسلوب السادس عشر: إجابة السائل عن سؤاله:

وهو أمر حض صلى الله عليه وسلم عليه ووجه الصحابة إليه حيث قال: " إنما شاء العي السؤال ".

 

فكان الصحابة يوردون عليه ما أشكل عليهم، من أمور دينهم ودنياهم، وكان صلى الله عليه وسلم يجيبهم بكل ذلك بسعة صدر، وبشاشة وجه، وطيب خاطر. بلى ملل أو كلل.

 

فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: يا رسول الله إنا نرجو أو نخاف أن نلقى العدو غداً وليس معنا مدى، فنذبح بالقصب؟ فقال: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوا ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة "[البخاري].

 

عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلَّم، وبكلبي المعلَّم، فما يصلح لي؟ قال: " أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها، وكلوا فيها.

 

وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل"[البخاري].

 

الأسلوب السابع عشر: جواب السائل بأكثر مما سأل عنه:

فقد يناسب المخاطب والحال مزيد فائدة غابت عن السائل والمتعلم فلا بأس من إيراد تلك الفائدة، ليزداد علماً.

وهذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم يدل على كمال رأفته ورعايته بالمتعلمين والمتفقهين.

 

فعن أبي هريرة يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هو الطهور ماؤه، الحل ميتته "[أحمد].

 

فهذه الزيادة (الحل ميتته) مهمة محتاج لها؛ لأنها بينت طهارة ماء البحر، وإن مات فيه ما مات، وبينت حل تلك الميتة أيضاً، ومعرفة ذلك ضرورية للبحار، فقد يحتاج إلى أكل تلك الميتة في بعض الأحيان.

 

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: رفعت امرأة صبياً لها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال:" نعم، ولك أجر"[مسلم].

 

الأسلوب الثامن عشر: لفت انتباه السائل إلى غير ما سأل عنه:

لتنبيه السائل والمتعلم إلى أمر أكثر أهمية وحاجة له، مما سأل عنه.

 

فعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة قال وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت مع من أحببت.

 

قال أنس فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت قال أنس فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.[ البخاري].

 

فنبه السائل إلى أمر يحتاجه أكثر وهو تهيئة نفسه لأمر الساعة بالعمل الصالح، لكون علم الساعة خاص به سبحانه وتعالى.

 

وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله ما يلبس المحرم فقال: " لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران، فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين "[البخاري].

 

لقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال عما يلبس المحرم، ببيان ما لا يلبسه المحرم؛ لأن ما لا يلبسه محصور، أما ما يلبسه فهو غير محصور.

 

الأسلوب التاسع عشر: التدريب على التعليم:

فكان صلى الله عليه وسلم يفوض أحد الصحابة الجواب عن سؤال السائل؛ ليدربه على التعليم، وليعلم ما لديه من علم ومعرفة.

 

فعن عبد الله بن عمرو - رضي اللع عنهما - قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: " أقض بينهما" قال: وأنت ها هنا يا رسول الله؟ قال: " نعم " قال: على ما أقضي؟ قال: " إن اجتهدت فأصبت لك عشرة أجور، وإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد " [الدارقطني ].

 

وعن عقبة بن عامر قال جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمان فقال لي: قم يا عقبة أقض بينهما، قلت: يا رسول الله أنت أولى بذلك مني، قال: "وإن كان، أقض بينهما فإن اجتهدت، فأصبت فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد "[ الدارقطني ].

 

وعن نمران بن جارية عن أبيه أن قوما اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خص كان بينهم فبعث حذيفة يقضي بينهم، فقضى للذين يليهم القُمُط، فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره فقال: " أصبت، وأحسنت " [ابن ماجه].

 

الأسلوب العشرون: امتحان المتعلم بشيء من العلم ليقابله بالثناء إذا أصاب:

وهذا أسلوب يفيد المعلم في معرفة ما لدى المتعلم من علم، والثناء يفعل فعله في المتعلم حرصاً ومواظبة.

 

فعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم " قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: " والله! ليهنك العلم أبا المنذر " [مسلم].

 

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول، رسول الله لما يرضي رسول الله. [سنن أبي داود].

 

الأسلوب الحادي والعشرون: التعليم بالمداعبة والممازحة:

كان صلى الله عليه وسلم يداعب ويمازح أصحابه وهذا من طيب أخلاقه وحسن معشره، لكنه ما كان يقول إلا حقاً، وكان يستغل المداعبة والممازحة في التعليم والتوجيه.

 

فعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكني أبا عمير وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرآه حزيناً فقال: ما شأنه؟ قالوا مات نغره، فقال:" يا أبا عمير ما فعل النغير " [سنن أبي داود ].

 

وقد فقه العلماء من هذه القصة أمور منها:

1- تخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة.

2- جواز الممازحة وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة.

3- جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده.

4- جواز تكنية من لم يولد له.

5- جواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات.

6- جواز إمساك الطير في القفص ونحوه.

7- معاشرة الناس على قدر عقولهم ومداركهم.

 

الأسلوب الثاني والعشرون: إمساكه بيد المخاطب أو منكبه:

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في التعليم أن يثير انتباه المخاطب بأخذ يده أو منكبه؛ ليزاد اهتمامه بما يعلمه وليلقي إليه سمعه وبصره وقلبه ليكون أوعى له وأذكر.

 

روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن عبد الله بن سخبرة أبي معمر قال: سمعت ابن مسعود يقول: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى بين كفيه، التشهد كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات و الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى عباد الله الصالحين، أشد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".

 

وروى البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور " وكان ابن عمر يقول: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك، فإنك يا عبد الله لا تدرى ما اسمك غداً ".

 

ومن هذا الباب أيضاً ضرب النبي صلى الله عليه وسلم على فخذ بعض أصحابه في بعض الأحيان. روى مسلم عن التابعي الجليل أبي العالية قال " أخر - الأمير - ابن زياد الصلاة فجاءني عبد الله بن الصامت، فألقيت له كرسياً فجلس عليه فذكرت له صنيع ابن زياد، فعض على شفته وضرب فخذي، وقال إني سألت أبا ذر كما سألتني فضرب على فخذي كما ضربت على فخذك، وقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فضرب على فخذي كما ضربت على فخذك، وقال: " صل الصلاة لوقتها فإن أدركتك الصلاة معهم فصل ولا تقل: إني قد صليت فلا أصلي، فإنها زيادة