من أهم منجزات ثورة 26 سبتمبر 1962 في اليمن ليس فقط بناءها عديدا من مدارس حديثة في بلد كان يفتقر للتعليم بشدة، فلم يكن عدد مثل هذه المدارس حينها يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وفيما عداها كان التعليم في اليمن الشمالي امتداداً لتعليم العصورالوسطى من كتاتيب وحلقات مساجد. وليست أهمية هذا الإنجاز في التحديث وتوسيع دائرة التعليم فقط، بل أيضاً في كسر احتكاره على طبقات اجتماعية واقتصادية عليا، بينما كان العامة من الشعب لا يحلمون بإرسال أبنائهم إلى التعليم، لأنه ببساطة مكلف مادياً، فإرسال أيٍّ من الأبناء إلى أماكن التعليم المحدودة يعني تحمّل مصاريف معيشة وتعليم، اضافة إلى خسارة الأسرة أحد أفرادها الذين قد يساهمون في الزراعة والعمل.
مجّانية التعليم التي بدأت في اليمن منذ عام 1962، ومنها أيضاً بدأ عدد المدارس يزيد، خصوصا في الأرياف، هي من إنجاز الطبقة الوسطى التي كان مجتمعها منقسما بين طبقات عليا حاكمة، يمثلها الهاشميون والقضاة ومشايخ القبائل، وطبقات أخرى دنيا، تعيش الكفاف، ولا تطمح إلى رفع مستواها. وفتحت ثورة 26 سبتمبر الباب واسعاً لكل طبقات المجتمع اليمني في تعليم أبنائها، والحلم بتحسين مستواها اقتصادياً واجتماعياً، ومنهم جاء الموظفون الحكوميون والكوادر المهنية المختلفة من عمال ومهندسين وأطباء، إضافة إلى المثقفين والكتّاب، فقد كان لافتا أن أسماء أسر المثقفين اليمنيين قبل الثورة، في معظمها، كانت لا تتجاوز أسماء أسر هاشمية أو قضاة أو فقهاء أو أحيانا مشايخ. ولكنك الآن تستطيع بسهولة أن ترى أسماء أسر المثقفين والكتّاب اليمنيين صارت من كل مكان ومن كل الأصول.
كان التعليم وسيلة الصعود الإجتماعي الأبرز لأبناء القبائل والمزارعين وغيرهم من طبقات كانت محرومة من التعليم، فمن خلال التعليم لم تعد مهن أفراد هذه الأسر محصورة بالزراعة، أو غيرها من نشاطات اقتصادية محدودة الدخل والأفق، بل لديها أطباء وموظفون ومهندسون وغيرهم ممن أسهموا بشكل كبير في رفع وعيها وتطلعاتها. وساهم التعليم الحكومي أيضاً في اندماج الطبقات الإجتماعية المختلفة، فعلى اختلاف مستوياتها الإجتماعية والإقتصادية، كانت تتلقى تعليما واحدا في المكان نفسه، ولذلك لم تظهر في حينه التفاوتات الطبقية في أنماط الحياة. وقد انعكس الإختلاط بين الفئات الإجتماعية المختلفة في المدارس الحكومية أيضاً بوضوح في علاقات الزواج والنسب التي كانت محصورة ضمن كل طبقةٍ، في حالةٍ مشابهةٍ للنموذج الهندي الحالي، لتبدأ تظهر روابط زواج ونسب عابرة للطبقات الإجتماعية، ما أحدث ثقافة اجتماعية وسياسية جديدة.
إضافة إلى هذا، كانت المدارس، بمناهجها الوطنية الموحدة، أولى لبنات تأسيس مفاهيم الدولة الحديثة من مواطنة ومشاعر قومية بعيدة عن التراتيبية الطبقية الصارمة والتعصبات القبلية والمناطقية والمذهبية، ونجحت نسبياً على الرغم من ضعف الدولة وانتشار الأمية، وتدهور مستوى هذه المدارس في العقدين الأخيرين. وهو التدهور الذي كانت بدايته في نشوء المدارس الخاصة بشكل محدود في الثمانينات، ثم أصبحت مشاريع استثمارية منذ منتصف التسعينات، حينها بدأ العد التنازلي للتعليم الحكومي في اليمن، فانتشار المدارس الخاصة أدّى إلى إهمال الدولة المدارس الحكومية، بعد أن انصرف معظم مسؤوليها عن تدريس أبنائهم في المدارس الحكومية للخاصة، لتصبح المدارس الحكومية أقل كفاءة، وأدنى مستوى أمام المدارس الخاصة.
كان ظهور المدارس الخاصة بداية لانقسام المجتمع اليمني مجدّداّ، وصعود ظاهرة انعدام المساواة وتزايد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وليس من العجب أنها ترافقت مع تصاعد معدلات الفساد. وهذه المرّة، انقسم المجتمع اليمني على أسس مادية، وليس على أسس الأصول الاجتماعية، وهو انقسام أوجد تحدّياتٍ لا تقل صعوبة، فالطبقة الأغنى، بحكم تعليمها الأفضل، صارت هي الأكثر معرفة، وأبناؤها الأقدر على المنافسة في سوق العمل، والحصول على وظائف مربحة، تحافظ على مستوياتهم المادية المرتفعة، بينما كان التعليم الحكومي الضعيف يقلل من فرص الحصول على وظيفة جيدة، أو حتى وظيفة أصلاً. وبالتالي، يصعّب استمرار تدنّي مستويات التعليم الحكومي على الطبقات الفقيرة المنافسة، أو التطلع إلى تحسين أوضاعها.
مع صعود الحوثيين إلى السلطة، بدأ التعليم اليمني يواجه تحدّيات كبيرة، من انقطاع مرتبات المعلمين وأدلجة التعليم، ولكن التحدّي الأبرز كان بداية خصخصة التعليم بشكل رسمي، فيما سماها الحوثيون "المساهمة المجتمعية". وككل العبارات الحوثية المضللة، تبدو المساهمة المجتمعية كلمة مخاتلة، يقصد بها العكس، فهي تعني الخصخصة، بينما يحاول الحوثيون تقديمها بصفتها إسهاما مجتمعيا في تقديم مرتبات للمعلمين، وكأن مسؤولية المجتمع القيام بمهام الدولة التي يسيطرون عليها.
رغبة الحوثيين في تجهيل المجتمع ليست قضية افتراضية، أو استنتاجية لخصومهم، لأنهم يحشدون بشكل مكثف الأطفال والمراهقين إلى الجبهات، وبالتالي تعتبر المدارس عائقا في عملية التحشيد، بل أيضا هي حقيقة تتجّلى في أدبياتهم التي تتمثل في خطب مؤسسهم، حسين الحوثي، الذي يعتبر أي كتاب غير القرآن الكريم بلا قيمة، بما فيها الكتب عن الإسلام والشريعة، مثل أصول الفقه وغيرها. وهنا، لا يبالغ أحد في وصفه الحوثي بأنها جماعة الجهل المقدس، فهذا توصيفٌ ينطبق عليهم بوضوح، فهم عندما كانوا يتحدّثون عن نموذجهم في حكم صعدة لم يتحدّثوا يوماً عن التعليم أو الصحة، بل كان الأمن دائما إنجازهم الأبرز، حسب دعايتهم.
لا يقع التعليم ضمن أولويات أي مسؤول حوثي، وهذا واضح. ولهذا التجهيل المخطط للمجتمع تداعيات خطيرة، فالتعليم هو الذي أسّس ثقافة المواطنة الحديثة والهوية القومية، بعيداً عن العصبيات الاجتماعية، وغياب هذه الثقافة والهوية أمرٌ يصب في صالح الحوثي، وتصوراته الذهنية عن المجتمع، كما يؤسّس لصراعات قبلية ومناطقية مستقبلية كثيرة، في حال توقف التدخل الخارجي. والأخطر هو تجريف الطبقة الوسطى كلياً، فإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتدهور، بسبب الحرب وسوء الإدارة والفساد، والذي أدّى إلى تجريف جزء كبير من هذه الطبقة، فنحن الآن أمام تجريفٍ أكثر اتساعاً، وهذا أمر يسعى إليه الحوثي لأمرين: أولهما، تصوّرات الحوثي الطبقية، ورغبته في احتكار السلطة، وبالتالي المعرفة لدى طبقة اجتماعية معينة. ثانيهما، تشكّل الطبقة الوسطى بتطلعاتها وأحلامها كان من أبرز أسباب تقويض سلطة الرئيس السابق علي عبدالله صالح. وبالتالي، تحويل الشعب اليمني إلى طبقة متمكّنة غنية، وصاحبة معرفة وطبقات مطحونة وفقيرة، يسهّل كثيراً من السيطرة على معظم قطاعات المجتمع من دون عناء.
تقضي خصخصة التعليم على كل الإنجازات البسيطة والتراكمات المحدودة التي حقّقها اليمنيون في نصف القرن الماضي، وأول ما يفعل ليس فقط تجريف وعي المجتمع ومعرفته، وهما عوامل أساسية لأية نهضة، بل الأخطر أنها تقضي على تطلعات الطبقات الفقيرة وطموحها في الصعود، وتحسين مستويات معيشتها، وتخلق طبقية فجّة داخل المجتمع اليمني، بكل ما يعنيه هذا من تهديد لمستقبل المجتمع وأمنه.