مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

النعمان وقيمة الموقع (2–2)

2020/12/29 الساعة 08:17 صباحاً

خاطب النعمان المواطنين بتفاصيل ما قاله في مجلس الشورى عن الحالة المالية راغباً مشاركتهم الوقائع "ولقد قلت في مناسبات عديدة إن كرامة واستقلال هذا البلد سيظلان محل تساؤل ما دام اليمن يستجدي الآخرين ويعتمد في صرف مرتبات موظفي الدولة على ما تقدمه الدول الأخرى من مساعدات وقروض أو إصدار للعملة من دون غطاء. إن من المقومات البديهية للدولة (أي دولة) هي مقدرتها على الصرف على موظفيها وأجهزتها، ومتى ما عجزت عن ذلك فقدت اعتبارها، بل وكيانها كدولة، وفقدت أيضاً استقلالها الحقيقي، وأهدرت كرامتها وهي تقرع الأبواب طالبة مستجدية".

أضاف "إذا كانت وارداتنا اليوم عاجزة عن تغطية احتياجات الباب الأول من الميزانية، أي المرتبات كما ذكرت، فكيف يقدر لهذا البلد أن يدخل مرحلة التطوير وتنمية الموارد، وكيف يتسنى للحكومة أن توفر مياه الشرب للمواطنين، أو أن ترصف لهم طريقاً، أو شارعاً، أو تكافح مرضاً، أو تحمي الثروة الزراعية والحيوانية، أو أن ترعى العاجز والطفل والشيخ؟ إنني عندما أضع هذه الحقائق أمامكم فإنما أطلب من الجميع مشاركتي في التفكير والدرس والعمل للخروج من الحالة الرهيبة التي وصلت إليها بلادنا، ولكي نتدابر معاً ونتلمس الوسائل والطرق المؤدية إلى صيانة استقلال البلاد وكرامتها وشرفها".

ما كاد النعمان ينتهي من قراءة البيان بنفسه عبر إذاعة صنعاء (تم توزيعه لاحقاً في كتيب صغير بعنوان لـ"نعتمد على أنفسنا") حتى انبرى من اعتبروه تشهيراً بالبلاد بلغ حد خيانة البلاد، ولم يفاجأ هو نفسه برد الفعل وعدم اكتراث من وعدوه بالدعم والمساندة حين قبل الموقع، فقرر تقديم استقالته قبل أن يتمكن معارضوه من تنفيذ مخطط سحب الثقة عن حكومته في مجلس الشورى، وصار الموقف أشبه بالقطيعة بينه وبين معظم المسؤولين في الدولة ممن كانوا يتربصون به، وهم بدورهم كانوا يدركون أنه غير حريص على البقاء في منصب لا يستطيع أن يقدم فيه ما يرجوه لبلاده ويحافظ على كرامتها وسيادتها، وهكذا تم استدعاء الفريق حسن العمري، رحمه الله، عضو المجلس الجمهوري من القاهرة على استعجال للتشاور في الأمر، وتكليفه تشكيل الحكومة الجديدة.

وكان الفريق العمري معروفاً عند الناس بأنه (بطل الـ70)، إشارة إلى دوره التاريخي في فك حصار فرضته قوات الملكيين على صنعاء واستمر من نهايات شهر نوفمبر (تشرين الثاني) حتى فبراير (شباط) 1968، ومنحه هذا الدور نفوذاً متعاظماً داخل القوات المسلحة، كما ربطته علاقات طيبة مع كبار المشايخ في الشمال.

وعند وصوله إلى مطار صنعاء كان النعمان في مقدمة مستقبليه، وصافحه قائلاً "إنني سلمتك إياها، وأنكحتك إياها"، وفي الطريق ركب سيارة مكشوفة، وكانت جموع من الناس قد احتشدت لتحيته على طول الطريق، وكان المشهد فاضحاً بأن ترتيبات إفشال حكومة النعمان بدأت في يوم تكليفه.

كان الفريق العمري شخصية شجاعة ومقاتلاً جسوراً ومدافعاً صلباً عن النظام الجمهوري من يومه الأول في 26 سبتمبر (أيلول) 1962، ولكنه لم يكن يحمل فكراً سياسياً ناضجاً، كما كانت قرارته متهورة وغير مدروسة، وفي أثناء محاولته تشكيل الحكومة، وقعت أحداث اضطرته إلى مغادرة البلاد والعيش في القاهرة مع أسرته.

غادر النعمان اليمن إلى ألمانيا، ثم باريس، حيث تم تعيين نجله الأكبر محمد سفيراً هناك خلفاً للأستاذ محسن العيني الذي تم تكليفه تشكيل الحكومة في 18 سبتمبر 1971، وخلال تلك الفترة توترت الأوضاع على الحدود بين شطري اليمن، واندلعت إثرها حرب محدودة انتهت بلقاء في القاهرة بين العيني ورئيس وزراء اليمن الجنوبي علي ناصر محمد، وهو اللقاء الذي مهد لقمة في طرابلس في ليبيا بين الرئيسين الراحلين عبد الرحمن الإرياني وسالم ربيع علي.

بعد سفر الفريق العمري، كان لا بد من انتخاب عضو بديل للمجلس الجمهوري، فظهر فجأة اسم السفير اليمني في الكويت القاضي عبد الله الحجري كمرشح بديل، ونافسه في التصويت النعمان والأستاذ أحمد جابر عفيف، ومرة أخرى شعر النعمان بأن تحالفاً قوياً داخل المؤسسة القبلية كان يعترض على عودته إلى المشهد في ذلك الحين، وحسم أعضاء مجلس الشورى الأمر بانتخاب الحجري الذي صار أيضاً رئيساً للحكومة بعد استقالة العيني في ديسمبر (كانون الأول) 1972، وتم اختيار النعمان الابن نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للخارجية في تلك الحكومة بإلحاح من الرئيس الإرياني.

في 30 مايو (أيار) 1973 جرى اغتيال الشيخ محمد علي عثمان في تعز، وكان معروفاً بالحنكة والذكاء والمرونة، فعاد النعمان الأب إلى عضوية المجلس الجمهوري، وكان انتخابه بمثابة اعتذار من كبار المشايخ على موقفهم السلبي منه خلال الفترات السابقة، وبعد ذلك، قدم النعمان الابن استقالته الشهيرة من موقعه كنائب لرئيس الحكومة ووزير للخارجية إلى الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني، مبرراً ذلك بالقول "تعلمون فخامتكم أن مجلس الشورى قد انتخب والدي عضواً في المجلس الجمهوري، وحتى لا يتعرض سير الأمور للدولة لأي حالة من حالات المجاملة أو الإحراج بسبب العلاقة بين أحد أعضاء المجلس الجمهوري، وبين نائب رئيس الحكومة، فإني أجد من واجبي الأخلاقي أن أتقدم إلى فخامتكم باستقالتي من الحكومة". وحاول الرئيس الإرياني الإبقاء عليه في موقعه، ولم يفلح، فعينه مستشاراً سياسياً له.

ومن موقعه الجديد، تمكن النعمان الابن من إقناع رئيس المجلس الجمهوري بضرورة تفرغ الأعضاء وتوزيع مهام الإشراف على أعمال الحكومة عليهم، وكان يهدف من ذلك إلى تعيين رئيس حكومة من الشباب الذين كانوا قد اكتسبوا تجربة كبيرة في العمل الحكومي، لكن القاضي الحجري اعترض على فكرة التفرغ، ورأى أنها غير ضرورية، فتمت إقالته في شهر أبريل (نيسان) 1974، وتكليف الراحل حسن مكي بدلاً منه، وكان اختياره محفزاً لتسريع انقلاب 13 يونيو (حزيران) 1974، لأن التحالف القبلي مع المؤسسة العسكرية اعترض عليه، وكانوا ينظرون بريبة إلى اختيار شخصية وطنية وليبرالية مستقلة، وكان البعض يعتبره محسوباً على اليسار، لكن النعمان الأب أصر على تسميته، واقتنع الإرياني بضرورة الأمر.

وبعد اغتيال محمد نعمان في بيروت 28 يونيو 1974، قرر النعمان الابتعاد عن العمل السياسي بعد سنوات طويلة أنهكته وأرهقت كل احتماله للمآسي والمفزعات، لكنه ظل قريباً من الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، ورأى فيه مشروعاً متقدماً لما كان يريده هو نفسه لليمن، وكان مقتنعاً بأن الوظيفة العامة في كل مستوياتها ليست أكثر من محطة لخدمة الناس، وأن شاغرها يجب أن يكون مدافعاً عن السيادة الوطنية ومحافظاً على كرامة البلاد.