يطرح الخطاب الأول للرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي ألقاه من مقرّ وزارة الخارجية الأميركية، العديد من الأسئلة حول استراتيجية الإدارة الديمقراطية في التعامل مع الملفات السياسية الخارجية في مناطق شديدة التعقيد جيوسياسيا وأمنيا، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط.
ملف اليمن الشائك جاء ضمن فواتح الرئيس بايدن في خطابه، فقد أعلن عن إنهاء المساعدات الأميركية لدول “التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن” وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ووقف الإمداد العسكري للتحالف في حربه التي يخوضها لمواجهة التغوّل الإيراني هناك بواسطة جماعة “أنصارالله”، ذراع الحرس الثوري في اليمن، والتصدّي لحرب بالوكالة تقودها هذه الجماعة المتشددة والعقائدية المسلّحة باسم الولي الفقيه القابع في طهران.
وإثر وقت قصير من القرار الأميركي المفاجئ، سارع وزير الشؤون الخارجية لدولة الإمارات، أنور قرقاش، ليحاكي خطاب بايدن في تغريدة على حسابه الخاص موضحا الموقف الرسمي لدولته من الحرب، وكتب “لقد أنهت الإمارات تدخلها العسكري في اليمن منذ أكتوبر الماضي. وحرصا منها على إنهاء الحرب، دعمت الإمارات جهود الأمم المتحدة ومبادرات السلام المتعددة، وبقيت واحدة من أكبر المانحين للمساعدات الإنسانية للشعب اليمني”.
من جانبه، باشر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في اليوم التالي لخطاب الرئيس بتفعيل إجراءات إزالة تنظيم الحوثيين في اليمن من لائحة الإرهاب التي أدرجهم عليها الرئيس السابق ترامب في قرار اتخذه قبل يوم واحد من خروجه من البيت الأبيض، وقد وصفته منظمات العمل الإنساني أنه “حاجز” في طريق تقديم المساعدات الأساسية للمدنيين. وقامت الخارجية على الفور بإبلاغ الكونغرس رسميا نيّة الوزير بلينكن إلغاء التصنيف، وفسّر المتحدث الرسمي باسم الخارجية هذا القرار بقوله “إن نظرتنا إلى الحوثيين وسلوكهم المستهجن بما فيه شنّهم الهجمات على المدنيين وخطف مواطنين أميركيّين هو خارج إطار هذا القرار”، وتابع المتحدث مفيدا “أكدنا التزامنا بمساعدة السعودية في الدفاع عن أراضيها ضد هجمات جديدة”.
قد يكون الإعلان الرسمي عن سياسة واشنطن تجاه الحرب في اليمن والقوى المنخرطة فيها، بمثابة نموذج أولي لما سيكون عليه نهج إدارة بايدن في الشرق الأوسط ولاسيما في ما يتعلق بالملفات الساخنة لدول لم يخمد حريق الاقتتال فيها مثل العراق وسوريا؛ وكلا البلدين يشكوان، كما اليمن، من تدخّل الميليشيات الإيرانية وأذرعها العسكرية الطولى التي تختطف المشهد السياسي، وتدير حروبا متنقلة بالوكالة عن طهران، بهدف السيطرة وبسط النفوذ عن طريق خلخلة ميزان الأمن والاستقرار وإشاعة الانقسام الاجتماعي والتطرّف العقائدي.
أما إذا كانت سياسات بايدن ورأس دبلوماسيته بلينكن هي مجرد الانقلاب على القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس السابق ترامب دون النظر إلى حيثيات وظروف اتخاذ تلك القرارات، بل ودون التمعّن بشكل كاف بنتائج القيادة بسرعة فائقة في الاتجاه المعاكس قبل تعبيد الطريق وتيسيره للهرولة الدبلوماسية المرتقبة خارج الحسم العسكري، فهذه معضلة كبرى ستقع فيها الإدارة الديمقراطية مع مرور الوقت في التعامل مع الأحداث المفصلية في الشرق الأوسط، والتي قد لا تحتمل ذيول تغيير مباغت لعجلات القيادة الأميركية في الاتجاه المناقض لما كانت عليه لمجرد قلب السياسات التي كانت قائمة في العهد الجمهوري السابق.
المستشار الأسبق في وزارة الخارجية الأميركية، حازم الغبرا، الذي عمل تحت إدارة بلينكن في عهد باراك أوباما، حدثني عن تحفّظه على القرار الأخير بشأن اليمن، قائلا “إن قرار الإدارة الجديدة بالانسحاب من التحالف العربي وإلغاء تصنيف جماعة الحوثيين تنظيما إرهابيا مستغرب جدا في الوقت الذي تستمر الجماعة في تبنّي شعار: الموت لأميركا!”.
وتابع “من المحبط أن إدارة بايدن ترى أن هذا القرار يهدف إلى المساعدة في إيصال المساعدات إلى اليمنيين في حين أن الحوثيين لديهم تاريخ طويل في سرقة المساعدات واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية؛ بالإضافة إلى ذلك لا ينبغي أن ننسى أن الحوثيين حاولوا اغتيال الحكومة اليمنية الشرعية برمّتها بإلقاء الصواريخ على مدرج مطار عدن المدني حال وصول الطائرة التي تقل الوزراء لاستلام مهامّهم”.
حملة بايدن الدبلوماسية في الشرق الأوسط، كما ظهر في خطابه، لن تعطي ملفي العراق وسوريا القدر اللازم من الحسم في الوقت الراهن، رغم أن إعادة ترتيب العلاقة مع إيران لا تنفصل على أية حال عن هذين الملفين حيث الميليشيات الإيرانية تتخذ من العاصمتين معسكرات لوجيستية ودعوية لها، بل وتسيطر على القرار السياسي الرسمي وتوجّهه، وإن احتاجت تلجأ إلى تصفية العقول النيّرة من مفكرين وسياسيين، تلك التي ما انفكت تضيء الطريق للتمرّد المشروع على غطرسة ملالي إيران على أرضها.
ولا ننسى في هذا السياق أن الدولة اللبنانية بأسرها هي أيضا مخطوفة ومعطّلة بأمر من وكلاء طهران في بيروت، وأن يد الغدر التي امتدت مؤخرا لتصفية المفكّر الشيعي الحر، لقمان سليم، ستكون قادرة على استعمال كاتم الصوت مجددا لتفرّغ رصاصات حقدها في رؤوس أخرى لا ترضى اختزال الطائفة في قوام ميليشيا مسلّحة خارجة عن القانون.
ستدرك إدارة بايدن قريبا أن تلك الملفات المعقدة لن تجد طريقها للحل إلا من خلال صياغة اتفاق جديد واستثنائي مع طهران يتضمن مساءلتها عن مشاريع صواريخها الباليستية وعن تمويلها ودعمها للمجموعات المسلحة العابرة للحدود والمسؤولة عن العشرات من الهجمات التي روّعت المدنيين في دول الجوار، هذا إضافة إلى ضرورة إشراك الدول المعنية في التحالف العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لتكون طرفا مؤثرا وفاعلا في أي اتفاق سيصار إليه ما بعد اتفاق “فيينا 2015” المنتهي الصلاحية.
وستكون مهمة إدارة بايدن الدبلوماسية في اليمن صعبة للغاية لجهة إقناع المواطن الأميركي العادي، والمشرّعين الأميركيين ولاسيما المحافظين منهم، بأن أموال دافعي الضرائب التي تستخدم في تأمين المساعدات الإنسانية للشعوب المحتاجة ستنتهي بيد مجموعة “لا إنسانية” لا تفقه إلا لغة السلاح، تمارس القتل والإرهاب بالجملة، تروّع الآمنين، وتستهدف المدنيين العزّل في أرجاء اليمن الذي كان يوما “سعيدا”.
كاتبة سورية اميركية - نقلا عن "العرب"