مشهدك الحقيقي .. بين يديك
الأحد , 14 - أبريل - 2019

الواعظ البرلماني

2021/07/11 الساعة 01:39 صباحاً


                                                                                       
لو كان الإسلام هو الوعظ فقط لكانت فكرة "الخلاص" في المسيحية هي طوق النجاة الأول والأخيرة، ولسنا محتاجين بعدها إلى أي فكرة أخرى، ففيها وحدها الكفاية. ومن لم تكفه فليستزد قليلا من "مواعظ الجبل" وشكر الله سعي "الفادي"..!! 
ارتبط الوعظ الديني بالاضطهاد والاستعباد والتخلف، فتأسست الكرازة بين ركامات هذا الظلام. وعلى سبيل المثال لم تعرف اليهودية الوعظ كما عرفته أثناء السبي البابلي أيام نبوخذ نصر؛ أما في المسيحية فقد ابتدأ أثناء الاضطهاد الروماني لأتباع يسوع، واختفى أيام الحروب الصليبية، حيث تحول من وعظ إلى تحريض، وفي الإسلام انتشر الوعاظ والقصاصون في عصور التخلف والتراجع، ولا يزال. أدركت ذلك البروتستانتية المعاصرة فعملت على تحويل الوعظ من نمطه الكلاسيكي اللاهوتي إلى موجهات معنوية تحفيزية. أدرك مارتن لوثر "المؤسس الأول" أن الوعظ ثقافة ومهنة معا يستحيل توقيفه؛ لكنه غير مجراه من السلب للإيجاب، وأتكلم عن الإيجاب وفقا للرؤية البروتستانتية. وقرر جون كالفن "المنظر الأكبر" للبروتستانتية أن قربك من الله بقدر ما تمتلك في جيبك من دراهم. وحتى فكرة "الساقطون في طريق المسيحية" هي فكرة جون كالفن ويقصد بهم السلبيين الذين لم يتفاعلوا مع قضايا المجتمع. 
على أية حال.. وبعد هذا الاستطراد أقول: الوعظ الديني لا يبني أمة، ولا يؤسس لوعي، ولا يزيد من العلم ولا من الثقافة. جزء منه "أفيون الشعوب" حقا وفق إشارة ماركس. 
ترتقي الأمة بالوعي، وبالعلم وبالثقافة وبالمدنية التي تنشئها الدول، أما الوعظ الديني فيساهم في صناعة إنسان مشلول العقل، عقيم الفكر، سطحي الفهم. ولهذا تجد هذه البضاعة أكثر انتشارا في المجتمعات الأكثر تخلفا، وكلما اقترب الإنسان من العلم والمعرفة قلت حاجته للوعظ. 
في الحقيقة قد يتقبل العقلاء أن يكون الوعظ من رجل الدين المعروف عنه اشتغاله وتخصصه بهذا الجانب، أما أن يتحول السياسي إلى واعظ ديني فو الله ما هي إلا مسخرة ومهزلة، وإحدى ارتكاسات العقل وأنيميا المعرفة. 
لست أدري ما الذي يجبر عضو مجلس النواب ــ صاحب الوظيفة السياسية بطبيعة الحال ــ أن يتحول من سياسي إلى واعظ ديني؟!! ولماذا يزاحم الحبيب الجفري والعدني ومحمد الإمام على وظائفهم وحرفهم..!! 
يا عزيزي دائرتك الانتخابية لم ترشحك لتجدك يوما ما ناشطا "واتسيًا" أو "فسبوكيا" لتحدثهم عن فضائل العشر من ذي الحجة؛ لا، بل وتنظم أيضا قصيدة شعرية في ذلك..!! 
جمهورك السياسي لا يستسيغ منك أن تدعو لهم بأدعية عبدالرحيم البرعي، أو أحمد بن علوان، أو الشاذلي.. دع هذا لغيرك. هذه ليست مهمتك أنت.
جداتنا وأمهاتنا في القرى يعرفن فضائل العشر من ذي الحجة، وفضائل رمضان وشعبان، ويعرفن كذلك الأدعية والتوسلات والرقائق ووو إلخ. وما أتيت به هنا فلا قيمة له بمقياس العلم نفسه..! 
عزيزي ينقصنا معرفة فضائل شهر سبتمبر المعظم، فقط، وأيضا أكتوبر. وما عداه معروف ومعلوم. 
خير يوم في اليمن هو يوم 26 سبتمبر، وليس غيره. وإذا لم تدرك ذلك فعد إلى التاريخ واقرأ ما ذا كنا قبل هذا اليوم وكيف أصبحنا؟! وبدلا من أن تعود للتاريخ، فالتاريخ اليوم يعيد نفسه، تأمل فيما يجري فقط..!
أنت نائب برلماني، وظيفتك سياسية، ونحن في وضع استثنائي، والجمهور ينتظر منك تحليلا سياسيا، معلومة جديدة، عملا ثقافيا على مستوى الوطن، موقفا عمليا إنسانيا وسط هذه الكارثة التي نعيشها..! لا الأدعية والمأثورات وفضائل العشر من ذي الحجة وحزاوي "الحنش الأقرع"..! 
سبعون عاما ندعو لفلسطين ولم نحرك ساكنا، ولن نحرك أيضا، لأن منطق القوة لا يخضع لتهويمات التمني.! 
أخي العزيز.. مرة أخرى أنت برلماني، سياسي، فاترك اللاهوت لأهله، ولا تزاحم المتخصصين على مهنتهم، واشتغل بمهنتك الأصل التي أنيطت بك، وبموجبها تستلم راتبك من الدولة. وعليك أن تعرف أن حياتنا كلها محشورة بالوعظ الديني، في التلفاز ألف قناة دينية، وفي الراديو مثلها، وإمام الجامع يعظ، ورب البيت يعظ، ونغمة الهاتف الجوال تعظ، والنساء حتى في مطابخهن والله يعظن، و "يعضضن" أيضا.. وحتى أبواب المولات التجارية في الأسواق الراقية اليوم تمت برمجتها على الوعظ!! تفتحها فتدعو لك، وتغلقها فتذكر بالصلاة على النبي، واللهم صل عليك يا نبي..! 
حياتنا كلها وعظ في وعظ، وأيضا حرب في حرب..! هل عرفت الآن أن الوعظ لا يغير السلوك ولا يقيم العمران ولا يبني الدولة ولا يصنع الوعي؟؟! حتى عبدالملك الحوثي نفسه أغلب خطاباته وعظ ديني..!! 
ليس عبدالملك الحوثي فحسب؛ ادخل صفحة أفيخاري أدرعي، وستجدها زاخرة بالوعظ الديني والآيات القرآنية والأحاديث النبوية..!!! 
أخي العزيز.. يقول المتنبي: ولست أرى في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
ما الذي ينقصك حتى تغيب وتغترب هذه الغربة كلها عن واقعك وعن قضيتك الكبرى؟ أنت تعيش في عالم آخر غير الذي نعيشه ويعيشه اليمنيون. ثق أن مخرجات وعظك هي (صفر) ولو وعظت ألف سنة لما غيرت شيئا. وأظن أن هذا ما يريده الحوثي من الناس اليوم. يريد واعظا واهما أو متدينا ساذجا أو مثقفا مكابرا أو سياسيا جاهلا..! 
أخيرا.. أعترف أني كنت قاسيا، ولكنها القسوة التي لا بد منها لتوقظ النائم من سباته، وتعيد الحالم من غفلته إلى وعيه. وقد نضطر أن ننضح الماء البارد في وجه النائم الخامل، وتحياتي لكم..